الأقليات وحقوق الأكثرية.. مونديال قطر

د. وائل أحمد خليل الكردي
حتى ذلك الشاعر الأوروبي العظيم (جون ميلتون ) في فردوسه المفقود يقولها :
وجلس آخرون في عزلة على تل بعيد..
يطارحون أفكارا أسمى وآراء اعمق..
عن العناية الإلهية والعلم الأزلي والإرادة الحرة والقدر..
القدر الذي لا يحول والإرادة الحرة والعلم الأزلي المطلق..
فلم يهتدوا إلى شيء بل ضربوا في الشعاب فضلوا وما اهتدوا..
وايا كان ما يقصده الشاعر، فإن كلامه يوحي بالإيمان أن لكل كائن أرضا ومجتمعا يخوض بين ضفتيه أفكاره، وأن لكل مقام مقال، وإلا فإن عزلة الأقلية بصلاحها وقيمها لن تثمر دون اقوام تروج بينهم تلك القيم ويقبلونها.. بغير هذا ستكون شعارات الحرية والإرادة والحقوق والواجبات، اقوال بلا افعال، وربما جنون زائف..
لقد تعودنا أن المهاجرين إلى أي مجتمع جديد كانوا دائماً هم الأقلية المقهورة المرغمة على الاتباع الصارم لنظم وقوانين وأعراف المجتمع الوافدين عليه، ولا خيار لهم.. ولكن التاريخ يقول غير ذلك أحياناً، فهو يقف هناك ليفاجئنا بشهادته على ما هنالك من الأقليات تجبرت على الأكثرية وطغت عليها وقهرتها وربما أبادتها عن بكرة أبيها.. التاريخ قال أن الأقليات البيضاء المهاجرة إلى الأراضي الجديدة منذ قرون خلت قد أبادت الأكثرية من الهنود الحمر المتوطنة على هذه الأراضي (أمريكا) وذلك لأنهم فعلاً كانوا أقلية ولكنهم كانوا ألأقوى وفي أيديهم سلاح مختلف قاتل.. وكذلك فعل الرجل الأبيض في غزو أفريقيا قديماً وجعل أعزة أهلها عبيداً لديهم، ثم اجتياحهم بلاد الشرق أعماق أفريقيا وأسيا بدعوى الاستعمار ولكنهم كانوا السلطة التي فرضت نفسها على هذه الشعوب برغم أنهم كانوا الأقليات..
والتاريخ أيضاً يشهد أن اضطهاد الأكثرية للأقليات يولد عند هؤلاء مطالبات على استحياء بحقوقهم وحرياتهم.. أما اضطهاد الأقليات للأكثرية يولد الثورة، تماماً كما قتل (غوردون) الغريب على شرفة قصره الملكي بيد أكثرية (الدراويش) من أهل السودان..
ولكن يبدو أنه كما تقوم بيوت الأزياء العالمية بصناعة موضات وصيحات في الملابس والعطور يتشدق بها فئة من الناس تشدقاً ثم يتركونها ليركضوا من جديد بنحو محموم وراء موضة أو صيحة جديدة، فكذلك انسحبت الموضات والصيحات على أمور الاجتماع والسياسة (والحديث هنا عن الأقليات الاجتماعية وليس السياسية).. وإحدى هذه الموضات الاجتماعية التي سادت في عصرنا الراهن بإفراط، موضة (حقوق الأقليات الفئوية) وصارت هي مجالاً للتلاعبات اللفظية وليس الواقع بقدر حقيقته وما يكون عليه.. فإن أي عاقل يعرف بداهة أن أي إنسان لابد أن ينال حقه في العيش والحياة والحرية، ولكن من وراء العقل أن نطالب بأن يعلوا حق لأقلية فئوية في سلوك معين على حق الأكثرية.. فإن الأقلية الفئوية هي دائماً ضيف في ديار الأكثرية وينبغي عليهم احترام حقوق الديار وحرماتها.. وهذا تماماً ما أرادته قطر من زوارها.
إن احتفالية كأس العالم لكرة القدم هي الأعظم كماً وكيفاً من أي احتفالية أخرى.. وبقدر اتساع كأس العالم هذا كان اتساع الزوبعة الإعلامية الداعية للإثبات اضطهاد قطر لحقوق الأقليات متمثلاً في رفضها لجماعات المثلية الجنسية أو من يدعون بمجتمع (الميم)، برغم العلم أن دولة قطر هي كأي دولة أخرى لديها هويتها الخاصة المتمثلة في أعرافها ونظمها وتقاليدها وما تربي عليه أبنائها جيلاً بعد جيل.. فأين إذن تكمن المشكلة؟ بالفعل إن الأقليات هم بشر لهم حق الحياة ولا خلاف على ذلك.. ولكن المشكلة تكمن في الدعاية والمجاهرة بغرض فرض وتعميم ما هو مخالف وشاذ لدى أقلية معينة على الأكثرية.. فماذا سيحدث لو حضر كل هؤلاء البشر الأقليات إلى قطر بصمت دون افصاح عن مكنون أنفسهم، أكانت قطر سوف تمنعهم؟ ومن أدرانا أن قطر الأن الان ليست ممتلئة بهؤلاء المثليين ممن وفدوا إليها من كل حدب وصوب لمناسبة كأس العالم ويمشون على أرضها أحراراً مطمئنين، فقط لأنهم ستروا عن خاصة أنفسهم ولم يصروا على الدعاية والمجاهرة بما يصادم هوية هذه الدولة المضيفة لهم.. إن المشكلة تكمن في أن جماعة مجتمع (الميم) يريدون وهم أقلية أن يفرضوا على اكثرية بلد غريب عنهم الخضوع لهم والاعتراف بهم علناً بإصرارهم على رفع شعاراتهم واعلامهم وعلاماتهم جهاراً على رؤوس الأشهاد، وهذا مناف تماماً لهوية دولة قطر وحقها كمضيف.. فالمنطق السليم يقول، لو أن الضيف كره ضيافة المضيف على شرطه فلن يجبره أحد على الحضور إلى دياره أصلاً.. ولكنه متى حضر فليلتزم.. لقد صدق رسول الله صل الله عليه وسلم أن قال (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فيمكن لنا أن نفهم دلالة هذا القول على مستويين، مستوى متعلق بتثبيت الذنب على فاعله والمجاهر به من أمة المسلمين فيستحق العقاب على ذلك، ومستوى أخر هو بالقياس على الفكرة أن المجاهرة والدعاية هي السبيل المؤدي إلى أن تفرض الأقلية الفئوية نفسها عنوة على الأكثرية وبما يعارض حقوق هذه الأكثرية في حفظ هويتها وطرق حياتها.. وهكذا فإن مكمن الخطر هو في تلك الكلمة (الدعاية)، فيجب أن نحسب له حساباً وإلا فسوف يأتي الطوفان بفوضى لا يمكن تداركها.

 


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب