عبدالحفيظ مريود يكتب: أنا لك، فلا تعيدني إلى

بدون زعل

ذات مرة كلفنا مدير إدارتنا، بتلفزيون السودان، بصناعة فيلم وثائقي قصير، عن ثورة أكتوبر، ليتم بثه في ذكراها المجيدة كان ذلك عام ٢٠٠٣م. لكن تكليف المدير تضمن نقطة غاية في الغرابة. لا يريد للفيلم أن يعرض لحسن الترابي – سيرة وصورة – إطلاقاً كانت ” المفاصلة” بين الوطني والشعب طازجة نسبياً.. ولكي تحافظ على “استقامتك”، فإن عليك أن تتجنب سيرة الترابي، وقيل – تحت تحت – أن تكيل له السباب. (دكتاتور – أصوله تشادية أو نيجيرية – مستفز …الخ).
شايف كيف؟
زميلنا المخرج المهذب، الفنان، أحمد إبراهيم محمد زين، المكلف بالإخراج، رفض الفكرة واعتذر عن التكليف، بأدب وحسم، فقد ناقشنا مدير الإدارة، وكان مصراً على رأيه. أحمد – ببساطة شديدة – قال: “إن ذلك تزوير للتأريخ، ولن أكون جزءاً منه”.. لم تكن لأحمد ميول “شعبية”، ولا اتهامات طالته، بهذا الخصوص.. رفضه القاطع أدى إلى وأد الفيلم، في مهده..
لاحقاً، بعد الربيع العربي، وقد غادرت التلفزيون، وجدت نفسي، بعد اعتذار صالح عجب الدور، أمام فيلمين وثائقيين لبرنامج ” تحت المجهر”، الأكثر شهرة في قناة الجزيرة، هما “ضد العسكر.. ضد عبود”، و”ضد العسكر.. ضد نميري”.. في التقصي الدقيق، بدت ثورة أكتوبر صناعة “إسلامية” خالصة.. لعب فيها حسن الترابي دوراً واضحاً.. ولعب اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الوقود الحيوي، سواء اتحاد حافظ الشيخ الزاكي، أو اتحاد ربيع حسن أحمد.. سألت ربيعاً: “بعد اعتقال اتحاد حافظ الشيخ، واصل اتحادكم الضغط، مستمراً على ذات منهج المعتقلين، لماذا؟”. قال: تلك كانت أوامر تنظيمية، ونحن نتلقاها من مسؤول الطلاب، عبد الرحيم حمدي، وننفذها.
شايف كيف؟
لكن الثورة صارت شيوعية، بعد ذلك.. فقد غنى لها الشيوعيون، ومجدوها وجعلوها “بنتاً شرعية” لهم، فيما كان موقفهم منها هو ذات موقف الإمام الصادق المهدي وحزب الأمة، من ثورة ديسمبر “بوخة مرقة”. وذلك بسبب زيارة رئيس الاتحاد السوفيتي بريجنيف للسودان، وتفاهماته مع نظام عبود، الذي دخل بموجبه الحزب الشيوعي إلى المجلس المركزي، لكن الشيوعيين ليسو بارعين في التسمية، كالإمام، وإلا لكانوا أسموها “بوسة المرقة”، إذ ما لبث نظام عبود أن انهار، قبل الوصول إلى “تماسات منعشة” مع نظام عبود.
شايف كيف؟
لزمني ذلك الوقت، لأصل إلى أن الجميع يشتركون في تزوير التاريخ، فقط تختلف الأسباب والمبررات..إذ كشفت اشتراطات مدير إدارتنا، وعموم سلوك الإسلاميين في تصفية خصوماتهم الداخلية، على قدرة مستطيلة، ولا قدرة مستطيلة إلا لله، جل شأنه، بالتأكيد، كما ورد في “دعاء السحر”، على تزوير وتشويه التأريخ، حتى لو كان تأريخهم، أو إسهامهم الخاص في تأريخ السودان.
وقد ثبت أن ذلك بعض خصال عموم السودانيين. الولع المكين بتزوير الحقائق والتأريخ، والثأر الشخصي، الحزبي، القبلي، الجهود. لا يتصالحون مع فكرة نسبة النجاح والفضل إلى أهله، الذين هم ليسوا “نحن”. وهي مسألة جد بغيضة.. ذلك ما يجعلك – كهلالابي – لا تملك سعة وسماحة لتعترف للمريخ بالكؤوس الخارجية التي نالها بجدارة.. والعكس (إذا كان الهلال قد جلب كأساً خارجياً).
أحزنني أن المثقفين والأدباء “تصامتوا” حين نالت الشاعرة روضة الحاج جائزة البابطين، عن أفضل ديوان، قبل أشهر مضت.. هنأها بعض أهل تنظيمها، والقليل من الصافية قلوبهم ونفوسهم، فيما لزم المثقفون والشعراء الصمت، خوف التهمة، و”التصامت” يعدي.. ذلك أن روضة – في التعريف اللحظي للسودانيين – هي “الكوزة” التي شغلت منصب آخر وزير للثقافة، في آخر حكومة “كيزانية”.. ومن هنا يبدأ التزوير.. فالتعريف اللحظي، ذاك، ينزع عنها ثياب الشعر، الإبداع، الجدارة بالفوز، وبالتالي لن يثبت اسمها في “قائمة الشعراء السودانيين الذين جلبوا كؤوساً خارجية”.. مثلها مثل المخرج سيف الدين حسن، حين يفوز له فيلم بجائزة في مهرجان دولي أو إقليمي.. سيظل سيف الدين حسن هو سيف الدين حسن “الكوز بتاع ساحات الفداء”، يمكن أن يمجده النوبيون، الدناقلة، بمختلف مشاربهم السياسية والأيديولوجية، في سياق آخر، حين يقتضي الوضع.. وهو أمر ضد ميزان العدل والاعتدال..
شايف كيف؟
لا يمكن أن يكون عمر البشير رئيساً “للكيزان”، فقط.. ولا أن تكون سنوات الإنقاذ الثلاثين، تأريخاً “كيزانياً”.. كان البشير رئيساً للسودان، وسنوات الإنقاذ جزءاً من تأريخ السودان، كأي رئيس وكأي حقبة سياسية.. التصالح مع ذلك، هو الطريق للتصالح مع التأريخ الوطني، ووضع الأمور في نصابها ودراستها.
لكن التعامل وفقاً “السحابة الذهنية – العقل الغائم، غير الشفاف”، Cloudy Mind، كما يسميه أهل الطب النفسي، فيما يتصل بالمواقف النفسية، مع الحكومات والأشخاص لن “ينظف” تأريخ الوطن مما تعتقده “لوثات وطنية”، بل سيحجب عنك القدرة على الرؤية المتزنة والقراءة المنطقية، بغرض بناء ذات وطنية وتاريخ وطني مؤسس.. فالأمم والشعوب لا تبنى بإثبات من نحب، وخلع من نهوى، كما فعل عمرو بن العاص.
شايف كيف؟
التصالح مع التأريخ القريب، هو نافذتك للتصالح مع التأريخ البعيد فالأبعد.. والتصالح مع كسب الأشخاص وإسهامهم، بمختلف مشاربهم، في بناء وجدان السودانيين، هو البذرة التي ستنبت شجرة “السوية الوطنية”، فافهم ذلك، أعزك الله.
*ملحوظة:
كان هناك قوم لقبوا بـ”رماة الحدق”، فأين أحفادهم؟


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب