الديمقراطية الليبرالية ونهاية التاريخ، بين الحقيقة والوهم

عثمان أحمد صالح
هل بلغنا “نهاية التاريخ” أم نحن على “مُفترق الطُرق”؟
للإجابة على هذا السؤال دعونا نقرأ القصة من البدايات.
شهد القرن الماضي صراع بين ثلاث أيديولوجيات: الفاشية، والشيوعية، والليبرالية. ولم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها قبيل منتصف القرن إلا والأيدلوجية الفاشية قد سقطت تماماً وأصبحت جزءاً من التاريخ، وخلت حلبة الصراع للشيوعية والليبرالية. وقبل أن ينصرم العقد الأخير من القرن كانت الشيوعية قد تفككت وانهارت لتلحق بالفاشية في متحف الأيدلوجيات وتخلو الساحة للفكر الليبرالي. ولعبت خمر النصر على الشيوعية في الحرب الباردة بالرؤوس الليبرالية حتى بلغت السكرة بقائد مثل بيل كلينتون مبلغاً جعله يصف دولة عُظمى مثل الصين وهي ترفض الأيدلوجية الليبرالبية في نظامها السياسي، يصفها دون أن يطرف له جفن بأنّها “على الجانب الخطأ من التاريخ”! وفي نشوة النصر تلك حاكى فوكوياما سلفه أرخميدس في صيحته “وجدتها”، ولكنه بدلاً عن أن يجد قانون الطفو وجد “نهاية التاريخ” فقرر بثقة في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” أنّ “الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية والمساواة.. ومبادئ الليبرالية الاقتصادية تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، وهي المنتصرة والغالبة في نهاية المطاف، ما ينتج عنه عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية”.
قبل أن ينقضي عقد واحد في القرن الحادي والعشرين، وتحديداً مع الأزمة المالية العالمية في العام 2008م بدأت تزول السكرة وتأتي الفكرة، وأضحى واضحاً أن ما بدا أنّه نهاية التاريخ لم يكن سوى وهم كبير، تماماً كما هو وهم كبير وصف الصين بأنّها “على الجانب الخطأ من التاريخ”. وشهد العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين صعود ترامب واعتلائه سُدّة الرئاسة في الولايات المتحدة، وكذلك شهد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي مثّل صدمة لكل أنصار العولمة الليبرالية. لم يكن تصويت الأمريكيين بنعم لترامب، ولا تصويت البريطانيين بنعم للخروج من الاتحاد الأوروبي رفضاً لكامل الأيدلوجية الليبرالية بقدر ما كان فقداناً للثقة في الجزء الخاص بعولمة الديمقراطية الليبرالية.
إذن ما هو نظام الحكم الصالح لتحقيق الرفاه لجميع الشعوب على ظهر الكوكب؟
“كل العائلات السعيدة متشابهة. كل عائلة غير سعيدة تكون غير سعيدة بطريقتها الخاصة”.
بهذه العبارة بدأ ليو تولستوي روايته الشهيرة “آنا كارينينا”. وقد صادفت تطبيقات هذه العبارة نجاحاً كبيراً في دنيا الاجتماع حتى صارت تُعرَف باسم مبدأ آنا كارينينا، ولكن عند تطبيق هذا المبدأ في دنيا السياسة يبدو العكس صحيحاً. ففي دنيا السياسة يمكننا القول: “كل الدول الفاشلة متشابهة. كل دولة غير فاشلة تكون غير فاشلة بطريقتها الخاصة”. ونستعرض بعض التجارب من باب المثال وليس الحصر.
سنغافورا
بعد عودة لي كوان يو (16سبتمبر 1923- 23 مارس 2015م) من جامعة اكسفورد كان محامياً وسياسياً سنغافورياً وأول أمين عام وعضو مؤسس لحزب العمل الشعبي. رأى لي كوان يو ما وصلت إليه بلده من مستوى التخلف والرجعية مما كان يزيده ذلك أكثر حسرة وندامة على وطن ينظر إليه البعض بأنه خارج الكوكب الأرضي. جاءت الانتخابات البرلمانية وفاز لي كوان يو بمنصب رئيس وزراء الجمهورية السنغافورية وحكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية صنع نهضة حديثة في ظل تلك الظروف الصعبة والشاقة التي شهدتها بلده. اشتهر بصفته مؤسس الدولة وناقلها من العالم الثالث إلى الأول خلال أقل من جيل. في سنة 1990م ترك لي كوان يو منصب رئاسة الوزراء ومنصب أمين عام الحزب السياسي لكنه بقي رئيسًا شرفياً له وشخصية سياسية مهمة. تحاشى لي السياسات الشعبوية لصالح تدابير اجتماعية واقتصادية عملية طويلة الأجل.
ماليزيا
مهاتير بن محمد سياسي ماليزي وهو رئيس وزراء ماليزيا السابع، وأيضًا كان رابع رئيس وزراء لماليزيا في الفترة من 1981م إلى 2003م، وتعد أطول فترة لرئيس وزراء في ماليزيا، وكذلك من أطول فترات الحكم في آسيا (منذ انتخابه عضواً في البرلمان الاتحادي الماليزي عام 1964م، حتى استقالته من منصب رئيس الوزراء في عام 2003م). كان لمهاتير محمد دور رئيسي في تقدم ماليزيا بشكل كبير، إذ تحولت من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الاجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من اجمالي الصادرات. وبعد اعتزاله العمل السياسي أعلن عن خوضه من جديد للانتخابات العامة في ماليزيا ليفوز بأغلبية المقاعد ويعلن عن تشكيل الوزارة ليصبح بذلك سابع رئيس وزراء لماليزيا، وبعمر 92 عاماً يصبح أكبر الحكام أعماراً في العالم. الاقتباس أدناه من كتاب الراحل د مهاتير محمد بعنوان:
A Doctor in the House: The Memoirs of Tun Dr. Mahathir Mohamad
“Because of pragmatic policies, Malaysia made smooth transformation from an agricultural economy to an industrial one. The sons and daughters of subsistence farmers and fishermen now work in airconditioned factories, handling delicate instruments and producing sophisticated products for the world market”.
كوريا الجنوبية
بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت كوريا في حروب أهلية انتهت بانقسامها إلى كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. بدت كوريا الجنوبية حينها في حالة ميؤوس منها، حتى صرح الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر بأن كوريا ليس لها أي مستقبل ومن الصعب أن تنهض بنفسها حتى لو بعد مئات من السنين. وقتها كان اقتصاد كوريا الجنوبية يعتمد على الزراعة وصيد الأسماك، وبها شعب غير متعلم أنهكته الحروب. معدل الدخل القومي في بداية الستينات من القرن الماضي 82 دولاراً للفرد، وحجم صادرات كوريا الجنوبية أقل من 40 مليون دولار. في هذا الوضع المتردي، تولّى بارك تشونغ هي (14 نوفمبر 1917م – 26 أكتوبر 1979م) حُكم كوريا الجنوبية بانقلاب عسكري في العام 1962م، واستمر في الحكم حتى اغتياله ليلة 26 أكتوبر/تشرين الأول 1979م. يعتبر تشونغ صانع النهضة الاقتصادية الشاملة التي شهدتها كوريا الجنوبية. تبنى تشونغ سياسة الاقتصاد الصناعي تحت شعار “التصنيع للتصدير”، وبهذا تحولت كوريا من دولة يعتمد اقتصادها على الزراعة إلى اقتصاد يقوم على الصناعة. صارت كوريا الجنوبية في وقت وجيز واحدة من أفضل 10 دول في العالم في الصادرات بما يزيد على 560 مليار دولار سنوياً وبمعدل دخل سنوي للفرد أكثر من 27 ألف دولار. بعد هذا النجاح الذي قادها لأن تكون واحدة من دول العالم الغنية والذي لعب فيه الاستقرار السياسي دوراً مهماً بالإضافة إلى العوامل الأخرى، أنشأت كوريا الجنوبية الوكالة الكورية للتعاون الدولي التي تهدف إلى مكافحة الفقر وتقديم المساعدات الإنسانية.
تركيا
انضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى حزب الخلاص الوطني بقيادة نجم الدين أربكان في نهاية السبعينات ثم إلى حزب الرفاه. سُجن أردغان بتهمة التحريض على الكراهية الدينية في العام 1998م. أسس حزب العدالة والتنمية الذي فاز بانتخابات عام 2003م، وتولى أردوغان رئاسة الوزراء حتى صيف 2014م، ومنذ ذلك الحين يتولى رئاسة تركيا. شهد الاقتصاد التركي الذي كان يعتمد على الاستثمار الأجنبي انهياراً كبيراً في 2001م أدى إلى ضعف الثقة في الحكومة التي عجزت عن تشكيل تحالفات دائمة وانتشر الفساد في البلاد. يعزي المراقبون الأزمة الاقتصادية التركية في العام 2001م إلى تحول المجتمع التركي بعد ثمانينيات القرن الماضي إلى الليبرالية الجديدة. لذلك برزت الحاجة الماسة لنظام سياسي ثقافي جديد يسهـِّـل على الشعب تقبـُّل التغيرات الاجتماعية. وفي هذا السياق لعب دعاة الدين الإسلامي دوراً محورياً في فتح الطريق لتزاوج القرار السياسي مع الثقافة الدينية متمثلة في حكم أردوغان. تبنى أردغان سياسة إقتصادية منفتحة لاجتذاب المزيد من المستثمرين الأجانب إلى تركيا وقامت بخصصة العديد من المصانع والمناجم. قال الرئيس أردغان، بعد انتصار حزبه في الانتخابات العامة التركية في نوفمبر 2015م “الشعب صوّت للاستقرار”. حققت تركيا قفزات اقتصادية كبيرة إبان تولي أردغان للحكم والذي استمرحتى الآن لحوالي 20 سنة. وتركيا اليوم هي ثامن أكبر منتج للغذاء وسادس أكبر وجهة للسياح وبها عدد مقدر من أكبر شركات الإنشاءات في العالم. كما ازدهرت مصانع الغزل والنسيج. استطاع أردغان خفض التضخم، وزيادة الصادرات التركية. من أهم أسباب نجاح الاقتصاد التركي خلال حكم أردغان، هو الاستقرار السياسي، الناتج عن فوز حزبه بالسلطة منفرداً. فوز حزب أردغان بالأغلبية منحه القوة، وساعده في تنفيذ المشاريع التنموية، وزيادة ثقة الشعب التركي بقدراته على الإنجاز. الاستثمارات الأجنبية في تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية بقيادة أردغان وصلت إلى 20 مليار دولار سنويًا بينما كان معدل الاستثمار الأجنبي في تركيا من عام 1950م إلى 2002 فقط 50 مليار. أيضاً ارتفعت قيمة الصّادرات التركية من 36 مليار دولار إلى 158 مليار دولار.
رواندا
عانى الاقتصاد النامي في رواندا بشدة في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994م، لكنه تعزز منذ ذلك الحين. ويستند الاقتصاد في معظمه إلى زراعة الكفاف. تعد القهوة والشاي المواد الرئيسية للتصدير. السياحة قطاع سريع النمو وهو الآن أكبر مصدر للعملات الأجنبية في البلاد. عمت الفوضى رواندا، مما دفع الرئيس باستور بيزيمونجو إلى الاستقالة “1994م- 2000م”، لتنتقل السلطة إلى زعيم الجبهة الوطنية الرواندية بول كاجامي. رغم أن كاجامي شارك في الاقتتال الداخلي، حيث ينتمي إلى أقلية التوتسي التي عانت من التطهير العرقي، وضع الرجل البلاد على الطريق الصحيح، ونقلها من عصر الدماء إلى عصر المصالحة الوطنية والوحدة والتنمية. عمل كاجامي على توحيد الشعب المنقسم، واستطاع انتزاع البلاد من براثن الفقر إلى آفاق التنمية والرفاه وقال كلمته الشهيرة “لم نأت لأجل الانتقام، فلدينا وطن لنبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى”. ولما أدرك كاجامي أن التفرقة والعنصرية والصراع لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدماء والحروب، أقر دستوراً يلغي الفوارق العرقية، وأسس هيئة للوحدة والمصالحة تدعى جاكاكا؛ ضمت 1,200 محكمة محلية يكونها تسعة قضاة يختارهم سكان القرية. لا تقوم هذه المحاكم على فكرة العقاب، إنما الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بخدمة المجتمع. وسن قوانين صارمة تعد الخطاب العنصري جريمة. وفرض برامج خاصة لإعادة تأهيل المتورطين في الإبادة. وأعادت الحكومة تقسيم المحافظات، حتى تعزز قيم المواطنة، وتلغي فكرة القبيلة. استثمر الرجل في العنصر البشري خصوصا النساء أيما استثمار، فبعد أن كانت المرأة الرواندية على هامش المجتمع بلا حقوق سياسية تحولت إلى المركز بعدما أضحت تمثل 70 في المائة من سكان البلاد؛ على اعتبار أن معظم ضحايا المجازر كانوا من الرجال، ومن بقي منهم لاذ بالفرار خارج البلاد. لذلك وجدت النساء أنفسهن معيلات لأسر وعائلات؛ فمنهن نصف مليون تعرضن للاغتصاب خلال الإبادة، ولهن أطفال لم يتمكن من معرفة آبائهم. ما جعل مهمة النهوض بالبلاد من ركام الإبادة حملا ثقيلا على عاتق الروانديات. لا تشتهر رواندا بشيء يميزها عن الدول المحيطة، لكن القبضة الحديدية للرئيس كاجامي جمعت الروانديين ووحدتهم حول مشروع بناء الدولة. حققت رواندا معجزة في الانتقال من الحروب القبلية إلى التنمية، وصارت رواندا سنغافورة القارة السمراء. أولى مؤسس رواندا أهمية قصوى للتعليم، واتخذ بشأنه قرارات شجاعة أدخلته في صراع مع قوى دولية “فرنسا”، بعدما عمد إلى تغيير لغة التدريس في المقررات التعليمية من الفرنسية إلى الإنجليزية واستبدل نظام تقييم المدرسيين من الأقدمية نحو معيار نسبة النجاح واعتمد زيادة مستمرة في ميزانية التعليم. شهد البلد ثورة في زراعة وتصدير الشاي والبن اللذان يشكلان أساس الاقتصاد الرواندي، مع ظهور التعاونيات الزراعية التي كانت بمنزلة حل لمشكلة إيجاد فرص عمل للناجين من الإبادة. عززتها الحكومة بتوفير قروض ميسرة للمزارعين، لتظهر النتائج بعد سنوات فقط، حيث ارتفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن بعد تنفيذ هذه الخطة. وحقق البلد قفزة نوعية في القطاع السياحي؛ خاصة السياحة الطبيعية، ثاني مصدر للدخل بعد الزراعة، مع استقبال البلد مليون سائح سنويا، بعد أن كان بلدا طاردا لأبنائه فضلا عن السياح.
نهضة رواندا الاقتصادية تزامنت مع نهضة اجتماعية شملت جميع نواحي الحياة، فبعدما كان الناتج المحلي الإجمالي لا يتعدى 900 مليون دولار سنة 1994م، أصبح يناهز 9.14 مليار دولار سنة 2017م. وتحولت رواندا إلى واحدة من أهم الاقتصادات الناهضة في العالم بمتوسط معدل نمو 7.5 في المائة. أصبحت روندا أكثر دولة جذباً للمستثمرين ورجال الأعمال في إفريقيا. كذلك تراجع معدل الفقر في رواندا من 60 في المائة إلى 39 في المائة، وانخفضت نسبة الأمية في أوساط الروانديين من 50 في المائة إلى 25 في المائة. في المقابل ارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عاماً إلى 64 عاماً. واحتلت رواندا المركز 44 عالمياً، والأولى على مستوى إفريقيا في مؤشر محاربة الفساد. فالروانديون يشعرون طوال الوقت بأن لا أحد فوق القانون. الثقة بالمؤسسات ساعدت على جذب المستثمرين إلى جانب توافر الأيدي العاملة، وسهولة إنشاء شركة؛ إذ لا يتطلب الأمر سوى خمس ساعات فقط. وحازت العاصمة الرواندية كيجالي لقب أنظف عاصمة إفريقية بعد تبني سياسة “أومجاندا” التي تقتضي أن يخرج جميع سكان العاصمة يوم السبت الأخير من كل شهر لتنظيف شوارع مدينتهم، من رئيس البلاد حتى أصغر طفل. كما أن رواندا تعد واحدة من أكثر عشر وجهات سياحية أمانا في العالم. وبلغ الاهتمام بالجانب المعلوماتي والتكنولوجي ورقمنة البلاد مستويات عليا، قياساً بالمعدلات المعروفة في القارة الإفريقية.
المشتركات
ومع الطريقة الخاصة التي سلكتها كلاً من هذه الدول لتحقيق التنمية والرفاهية لشعبها “كل دولة غير فاشلة تكون غير فاشلة بطريقتها الخاصة”، إلا أنّه يمكننا استخلاص بعض المشتركات في جميع هذه التجارب.
أولى هذه المشتركات أنّ جميع هذه الدول لم يكن طريقها للنهضة مُعبَّداً خالياً من العوائق، بل العكس جميعها امتلكت العذر للتقاعس والقعود إن هي رضيت بذلك، فغالبية هذه الدول عانت من حروب أهلية بطريقة أو أخرى أو إنشقاق عن الدولة الأم. كذلك جميع هذه البلدان ليس لها موقع جغرافي يوفر لها سبل التواصل مع العالم، ثلاث منها في أقصى الشمال والجنوب الشرقي، وتركيا في شمال الكرة الأرضية ورواندا أرض مغلقة (ليست لها موانئ بحرية). أيضاً جميع هذه الدول ليست منتجة للنفط وليست بها معادن نفيسة مثل الماس والذهب أو لها محصول نقدي يُميِّزها (السودان مثلاً ينتج أكثر من 70% من الصمغ العربي).
المشترك الثاني أنّ جميع قادة هذه البلدان المذكورة في الأمثلة، باستثناء د. مهاتير محمد (رئيس وزراء ماليزيا) ورجب طيب أوردغان (رئيس تركيا الحالي)، من خلفيات عسكرية. وليس معنىً لذلك أنّ الخلفية العسكرية شرط لازم لنهضة الدولة، ولكن بالأحرى أنّ تحقيق النهضة ليس حِكراً على القادة ذوي الخلفيات المدنية.
القاسم المشترك الثالث أنّ جميع هذه الدول شهدت استقراراً سياسياً وذلك لبقاء قادة النهضة فيها على سدة الحكم لفترات طويلة تتراوح بين 30 سنة (سنغافورة) و17 سنة (كوريا الجنوبية).
رابعاً جميع هذه الدول في فترات نهضتها لم تطبق نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية والتي جوهرها ألا يبقى الحاكم في موقعه لأكثر من دورتي حكم (باستثناء حالة المستشار الألماني السابقة أنجيلا ميركل والتي ظلت في موقعها لمدة 16 عاماً).
الخاتمة
لعل هذه الأمثلة لقصص النجاح في الحُكم بعيداً عن الديمقراطية الليبرالية، مسنودة بالهزات السياسية التي حدثت في الغرب، هي ما أجبر فوكوياما على أن يتواضع ويعدل عن رأيه في “نهاية التاريخ” ليضع خلاصة تجربته الفكرية في كتابه “أمريكا على مفترق الطرق ما بعد المحافظين الجدد”، حيث اعتبر فيه أن الديمقراطية لا تأتي بسهولة، وهي غير مُيسّرة للجميع، ولا يمكن تصديرها ولا استيرادها، ولا يمكن نقلها جاهزة، واعتبر أنها حصيلة مسار وتجربة ثقافية وتاريخية واجتماعية طويلة، ولها شروطها التي لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها.
إذن فوكوياما يقول لساستنا بوضوح تام إنّ نسخ تجربة ويستمنيستر ولصقها في الخرطوم ليس بالضرورة أن يجعل السودان ينعم باستقرار ورفاه لندن. على ساستنا أن يتخلوا عن الفكر العاطل الذي غاية طموحه النجاح في نسخ تجارب الآخرين. عليهم الانتقال من محطة المعسكرين اللذين أنتجتهما الحرب العالمية الثانية، وأن يبدأوا القراءة لتعلُّم شيء جديد يستجيب لتحديات عالمنا المتغيّر وسوداننا الجديد. ولكن من أين نبدأ؟
يُقدِّم يوفال نوح هراري في كتابه “21 درساً للقرن ال21” نصيحة للغرب يقول فيها: “الآن إذا فقدت الليبرالية والشيوعية مصداقيتهما، فربما يتعين على البشر التخلي عن فكرة سرد عالمي واحدة؟ ربما يجب على كل دولة أن تتبع مساراً خاصاً تحدده تقاليدها القديمة؟ ربما حتى، من أجل التغيير، يحتاج الغربيون الى التوقف عن محاولة حكم العالم والتركيز على مشاكلهم بدلاً من ذلك؟”.
أرجو أن تكون هذه النصيحة قد حسمت الجدل لدى الساسة السودانيين حول عولمة الديمقراطية الليبرالية، وأرشدتهم من أين يبدأون. ولكني متأكد أنها لم تفعل، وأنّ غالب ساستنا سيؤثر راحة النسخ واللصق على رهق التفكير والاجتهاد، وسيبقى مُصِرّاً أننا بلغنا نهاية التاريخ.