النيل الأزرق.. التعليم في خطر

 

النذير إبراهيم العاقب

ليس من شك البتة في أن التعليم هو السبيل الأوحد إلى التنمية الذاتية وطريق المستقبل لكافة المجتمعات، من منطلق أنه يطلق العنان لشتى الفرص ويحدّ من أوجه اللامساواة، باعتباره حجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المستنيرة والمتسامِحة والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة.

وقد أصابت الظروف الحرجة التي مر بها إقليم النيل الأزرق نظُم التعليم العام بحالة من التعطّل هي الأوسع على الإطلاق، بدءاً من تعطل المدارس الحكومية لفترات طويلة الأمد عقب أحداث العنف التى شهدها الإقليم خلال الفترة الماضية، ناهيك عن إنهيار البنى الأساسية للمدارس العامة

ففي منتصف يوليو الماضي ، كانت المدارس قد أوصدت أبوابها في محليات الدمازين والرصيرص وود الماحي، مما أثّر على أكثر من 400 ألف طالب وطالبة، وهناك ما لا يقل عن 15 مليون طفل في جميع أنحاء الإقليم فاتتهم فرصة التعلّم في السن الحرجة السابقة للتعليم المدرسي، بسبب النزوح جراء الحروبات التي إجتاحت الإقليم 2011م، مما إضطر الآباء والأمهات خصوصاً إلى تحمُّل أعباء رعاية منزلية أثقلت كاهلهم، ورغم الجهود المستميتة التي ظل يبذلها المعلمون وأولياء الأمور تجاه المواصلين للتعليم في المناطق الآمنة بالإقليم، فلا يزال الوصول إلى الكثير من الطلاب أمراً متعذرا، أما الدارسون ذوو الإعاقة وأولئك المنتمون إلى الأقليات أو المجتمعات المحرومة، ومثلهم الطلاب المشردون واللاجئون وأولئك الذين يعيشون في مناطق نائية هم الأكثر عرضة لخطر التخلّف عن الركب.

وحتى بالنسبة لأولئك الذين يمكنهم الاستفادة بخدمات التعلّم عن بُعد، يرتهن النجاح بظروفهم المعيشية، بما في ذلك التوزيع العادل لأعباء العمل المنزلي.

والنيل الأزرق الآن تواجه كارثة تكاد تمس جيلاً كاملاً، كارثة يمكن أن تهدر إمكاناتٍ بشرية لا تعد ولا تحصى وأن تقوّض عقوداً من التقدّم وتزيدَ من حدة اللامساواة المترسّخة الجذور،

وتداعيات ذلك على تغذية الطلاب في المدارس، وزواج الأطفال من بين أمور أخرى مدعاةٌ للقلق البالغ.

تلك الخلفية هي الباعث على إعداد الموجز السياسي الذي من المفترض إصداره رسمياً من قبل وزارة التربية بالإقليم، على أن تطلق إلى جانبه حملةً جديدةً باسم (أنقِذوا مستقبلنا)، بالتعاون مع شركائنا في مجال التعليم ووكالات الأمم المتحدة، لاسيما وأن الإقليم الآن في منعطف حاسم الأهمية بالنسبة لأطفاله وشبابها، والقرارات التي تتخذها الحكومة والجهات الشريكة الآن سيكون لها أثرٌ طويل الأمد على عشرات الملايين من الشباب وعلى آفاق التنمية في النيل الأزرق لعقود قادمة.

على أن يدعو هذا الموجز السياسي إلى اتخاذ إجراءات في أربعة مجالات رئيسية، تتمثل في

أولاً، إعادة فتح كل  المدارس بمحافظات النزاع، وإخلاء المدارس التي صارت مأوى للنازحين، ويجب متى تسنت السيطرة على الا على الصعيد المحلي، أن تولى أولويةٌ قصوى لإعادة الطلاب  إلى المدارس ومؤسسات التعلّم بأكبر قدر ممكن من الأمان، على أن يسبق ذلك أصدار إرشاداتٍ لمساعدة حكومات المحافظات في هذا المسعى المحفوف بالتعقيدات.

ولاشك أنه سيكون من الضروري الموازنة بين المخاطر التي تحدق بالصحة وتلك التي تتهدد تعليم الأطفال وحمايتهم وأن يؤخذ في الحسبان تأثيرُ ذلك على مشاركة المرأة في القوة العاملة، ولا غنى في هذا السياق عن التشاور مع أولياء الأمور والخبراء ومقدمي الرعاية والمعلمين والشباب.

ومن ثم إعطاء الأولوية للتعليم في قرارات التمويل، قبل أن تجتاح تلك الأزمة الإقليم، حيث كان التعليم يواجه بالفعل هُوّةً في التمويل المرصود للتعليم هي الأدنى على الإطلاق من ضمن ميزانيات المؤسسات الحكومية الأخرى،

الأمر الذي أدى لاتساع هذه الهوّة الآن، وذلك يوجب على حكومة الإقليم العمل على حماية ميزانيات التعليم وزيادتها، ومن المهم للغاية أن يكون التعليم في صميم جهود التضامن الدولي بالتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في النيل الأزرق، بدءا بإدارة الديون وحزم التحفيز، وحتى النداءات الإنسانية العالمية وجهود المساعدة الإنمائية الرسمية.

ثالثاً، اتخاذ من يصعب الوصول إليهم هدفاً للمبادرات، حيث يجب أن تسعى مبادرات التعليم إلى الوصول إلى أولئك الذين هم أكثر عرضة من غيرهم لخطر التخلّف عن الركب، أي من يعيشون في سياق حالات طوارئ أو أزمات، والمشردون وذوو الإعاقة.

كما وينبغي أن تراعي تلك المبادرات التحدياتِ التي يواجهها على الأخص البنون والبنات والنساء والرجال، وأن تعمل بشكل عاجل على سدّ الفجوة الرقمية.

ورابعاً، الفرصة الآن سانحة لتأمل مستقبل التعليم في النيل الأزرق، لاسيما وأنه قد سنحت لوزارة التربية الآن فرصةٌ لا تتاح للأجيال إلا فيما ندر لبلورة تصوّر جديد للتعليم، وباستطاعتها أن تقفز قفزةً هائلة نحو نظُم تستشرف المستقبل وتوفر تعليماً ذا نوعية جيدة للجميع تكون نقطة انطلاق لبلوغ أهداف التنمية المستدامة.

ولتحقيق ذلك، فالوزارة بحاجة ماسة إلى الاستثمار في محو الأمية الرقمية وفي البنى التحتية وتحوّل يتوجه بالإقليم نحو تعلّم كيفية تلقي العلم، وإلى تنشيط مبادرات التعلّم مدى الحياة وتعزيز الروابط بين التعليم الرسمي وغير الرسمي، وعليها مذلك الاستعانة بأساليب مرنة لتقديم الخدمات التعليمية وبتكنولوجيات رقمية ومناهج دراسية حديثة، مع العمل في الوقت نفسه على ضمان الدعم المستمر للمعلمين والمجتمعات المحلية.

وفي عالم يواجه مستوياتٍ غير مقبولة من اللامساواة، يصبح الإقليم بحاجة إلى التعليم، والذي هو عامل التكافؤ الأعظم، أكثر من أي وقت مضى، ولابد للوزارة أن تتخذ خطواتٍ جريئة الآن، من أجل إنشاء نظُم تعليمية شاملة للجميع تتسم بالمرونة والجودة وتكون صالحةً للمستقبل، خاصة في مجال البنية التحتية الأساسية والتي هي بلاشك عنصر مهم في جودة المدرسة، في حين أن وجود البنية التحتية لا يؤدي إلى مزيد من التعلم، فمن المرجح أن يؤدي نقص البنية التحتية الحيوية إلى تقليل التعلم، وهناك أربعة جوانب أساسية للبنية التحتية التي سيتم قياسها بتوفير مياه الشرب، والمراحيض الصالحة، والكهرباء،  وإمكانية الوصول للأشخاص ذوي الإعاقة، حيث يسهم ربط توفير مياه الشرب المأمونة في المدارس بانخفاض التغيب عن المدرسة لدى الطلاب وزيادة التعلم، بسبب التخفيضات الكبيرة في عبء الأمراض، وتوفير المراحيض الصالحة تجعل الحضور للمدرسة أكثر جاذبية، ومن المحتمل أن تقلل من الغياب بسبب المرض، ومن المحتمل أيضاً أن وجود الكهرباء والرؤية الجيدة في الغرفة الصفية من شأنه أن يحسن من قدرة المعلم على التدريس وقدرة الطلاب على التعلم، فضلاً عن الضرورة القصوى لسعي وزارة التربية مع المنظمات والجهات المختصة إلى تسوير كل مدارس المحافظات، وخاصة لمدارس البنات، توفيرا للأمن والاستقرار، وهذا، وللأسف الشديد، هو ما تفتقر له (90٪) من مدارس إقليم النيل الأزرق، الأمر الذي يعرض التلاميذ والتلميذات للخطر.

وكما هو الحال مع مدخلات المدرسة، يرى العديد من أصحاب المصلحة هذه الأنواع من البنية التحتية كعناصر أساسية لبيئة تعلمية عالية الجودة، مما يجعلها مهمة للتتبع في لوحة المعلومات، مع ضرورة، بل يجب أن تكون المدارس شاملة ومتاحة لجميع الأطفال، بمن فيهم الأطفال ذوي الإعاقات، ولهذا السبب، من الأهمية بمكان أن تستثمر حكومة إقليم النيل الأزرق، ممثلة في وزارة التربية، في تكييف بنيتها التحتية والمواد للطلاب عامة، وذوي الإعاقة خاصة،  حيث وجد تقرير حديث للبنك الدولي والشراكة العالمية من أجل التعليم (GPE) أنه في 19 دولة نامية، تبلغ نسبة إتمام التعليم الابتدائي للأطفال ذوي الإعاقة 48٪ فقط، وتدعو أهداف التنمية المستدامة (SDGs) إلى تعليم جيد وشامل وعادل، بهدف ضمان المساواة في الوصول إلى جميع مستويات التعليم للمستضعفين، بمن فيهم الأطفال المعاقين، ولتحقيق هذا الهدف، يجب تكييف المدارس لاستقبال الأطفال ذوي الإعاقة، ويتضمن هذا وجود البنية التحتية اللازمة والمعلمين المدربين والذين لديهم المهارات التربوية المناسبة للتعامل مع إحتياجات الطلاب المتنوعة والمواد مثل، برايل أو الكتب الصوتية للأطفال الذين يعانون من إعاقات بصرية وسمعية.

بجانب كل ما سبق فإنه يجب على وزارة التربية والتعليم بالنيل الأزرق تفعيل

الأداة المستخدمة للقياس، وإجراء مسح الموظفين الحكوميين، وتأهيل مصدر البيانات القائمة، وذلك لجهة إجراء مسوحات السياسة العامة

بالمسح الخاص بالمدارس، واتباع نهج القياس، ووضع الأسئلة الموجهة للمعلم أو المدير  والمشاهدة المباشرة، والمتمثلة على سبيل المثال، (هل الطريق المؤدي إلى المدرسة يمكن أن يسلكه طالب على كرسي متحرك؟.. وما هو المصدر الرئيسي لمياه الشرب التي توفرها المدرسة؟.. وهل الفصول الدراسية مؤهلة لاستقبال الطلاب والطالبات، وبضمان عدم إنهيارها في أي لحظة على رؤوسهم؟!.. وهل البيئة المدرسية متوفرة بشكل كبير بما يحفظ أمان الطلاب والطالبات مستقبلاً، وعدم تعرضهم للمخاطر). كل ماسبق يجب توفيره وبأعلى مستوى من قبل وزارة التربية والتعليم بإقليم النيل الأزرق حتى نضمن تعليما مستقراً وثابتا، يفضي إلى تأهيل الطلاب والطالبات بأعلى مستويات التعليم العام لضمان مستقبل أزهر للإقليم، وإخراجه من دائرة الخطر الداهم الذي يعيشه الآن.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب