اثنا عشر رجلاً غاضبون..

د. وائل أحمد خليل الكردي

في زمان الأبيض والأسود.. فيلم سينمائي أمريكي من مشهد واحد وداخل حجرة واحدة..اثنا عشر رجلاً هم هيئة من المحلفين في محكمة الجنايات الأمريكية، منوط بهم الوصول الى قرار حاسم بإجماعهم في الحكم بالإدانة على فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره اتهم بأنه قتل والده بطعنه في صدره بمطواة، فإما أنه مذنب أو غير مذنب ولا شيء آخر. وقد بنى الاتهام في القضية حكمه على شهادة سماع من رجل مسن وشهادة رؤية وسماع من امرأة تبدو في منتصف الأربعين من عمرها، ثم أيضاً المطواة الخاصة بالفتى والتي هي أداة الجريمة برغم أنه لم يكن عليها بصماته..
أغلق باب الحجرة على المحلفين الاثنا عشر من الخارج بالمفتاح لأجل أن لا يغادر أحد منهم الحجرة دون وصولهم جميعا إلى قرار موحد، مذنب أم غير مذنب، فإن كان قرارهم بأنه مذنب فسيتم إعدامه على الكرسي الكهربائي وإلا فسيطلق صراحه.. دخل المحلفون إلى الحجرة وهم جازمون بأنهم لن يمكثوا سوى دقائق قليلة هي تلك المدة التي يستغرقها التصويت بأن الفتى مذنب، فكان مما يبدو لأول وهلة أن الجميع مسلمون بذلك دون أدنى شك.. فعزموا على انهاء الأمر سريعاً بكونه مجرد اجراء روتيني محسوم سلفاً خاصة وأن الجو كان شديد الحرارة، وحرارة الحجرة أشد.. ثم كان التصويت كتابة، فجاءت كل الأوراق تحمل كلمة (مذنب) ما عدا ورقة واحدة (غير مذنب).. تصبب الجميع عرقاً للحرارة وبلغ بهم التعجب والاستياء مبلغاً من ذلك الرجل الوحيد الذي خالف الجميع في أمر بدى لهم بديهياً جداً وأن هذا الاعتراض ربما سيستغرق منهم زمناً أطول داخل هذه الحجرة في الشرح والتوضيح.. ثم دارت حول المائدة أسئلة وأجوبة بجدل منطقي حاد. وأظهرت المناقشة أن الرجل صاحب الصوت المخالف لم يقر أنه مقتنع ببراءة الفتى كما لم يكن أيضاً مقتنع بعدم براءته ولم يحاول أن يثبت اهتماماً شخصياً أو عاطفياً تجاه الفتى وانما كان محايداً تماماً في موقفه بأن كل ما هنالك فقط أن أدلة الإدانة لم تكن بعيدة عن (الشك المعقول) فيها، فهو إذن–بعكس موقف الآخرين- لم يعنيه أن يكون الفتى مذنباً أو غير مذنب وإنما فقط كانت تعنية البينة أو الأدلة التي استند عليها القضاة في اثبات الجرم على الفتى، وكان هذا مصدر القوة في موقفه..وبعد كل جولة من النقاش كان يتم إعادة التصويت وفي كل مرة كان الرجل صاحب الصوت المخالف يكسب واحداً من الاثنا عشر رجلاً إلى صفه بالإقناع العقلي ليغير صوته إلى (غير مذنب). وهكذا أخذ عدد المخالفين يتزايد في كل مرة يصوتون فيها حتى انتهى الفيلم بإقرار الجميع أن الفتى غير مذنب بما فيهم من كان أشدهم تعصباً لموقفه الأول، فتضمن ذلك عدداً من الدلالات التي جعلت من الفيلم (نصاً واخراجاً وتمثيلاً وتصميماً درامياً) عملاً ابداعياً بامتياز..
أولاً- في مواقفنا في الحياة،كثيراً ما نسلم تسليماً قاطعاً بأمر معين ربما لدرجة أن نعتبره أمراً بديهياً معلوم بالضرورة ومعروف بمحض الفطرة فلا يحتاج إلى تفكير. ولكن ما أن نستدعيه من مؤخرة دماغنا لنضعه أمام وعينا المباشر كأنما نراه بأعيننا ونتأمل فيه مرات ومرات حتى نرى أنه طوال تلك المدة الماضية التي عرفناه فيها لم يكن بالفعل أمراً بديهياً، وأننا كنا نتعامل معه من زاوية ظهرت لنا وخفيت عنا منه زوايا.. وهذا تماماً ما فعله الرجل صاحب الصوت المخالف مؤكداً من خلال تساؤلاته المنطقية بأننا لا ينبغي مطلقاً عندما نكون بصدد ازهاق حياة إنسان أو حرمانه من حريته الطبيعية إلى الأبد أن نحكم بما نعتقد –أو نظن أننا نعتقد- أنه حكم مسلم به بداهة لدى جميع الناس ولا يحتاج بذاته إلى برهان قوي. خطورة هذا الأمر أننا كما لو كنا نبني احكامنا على قواعد من الرمال فتنهار قريباً بأن نكتشف -وكثيراً بعد فوات الأوان-أنناكنا مخطئون. وفي قضية مثل تلك ربما دفع ثمن هذا الخطأ إنسان بفقد روحه، فماذا يفيد الشعور بتأنيب الضمير بعد وقوع المقاصل على الرقاب..لذلك تكلم أعمق الفلاسفة في هذا الشأن خصوصاً (فلسفة الظاهرات) التي أسسها (ادموند هوسرل) وقال فيها بضرورة أن يضع الإنسان خبراته وتجاربه ونتائج معاملاته كلها بين قوسين ليعزلها عن خلفياتها وكل ما يحيط بها من مؤثرات ومن آراء سابقة وانطباعات عند الآخرين، ثم النظر إليها بتفاعل شعوري خالص ومباشر في التو واللحظة، فيكسر الأقواس بعد أن يكون قد أعاد الحكم عليها على هذا النحو الجديد. وقديماً قال (فرانسيس بيكون) أن الإنسان لابد أن يتخلص في أفكاره وأحكامه مما أسماه (أوهام القبيلة) وهي ما يغذى به عقل الإنسان دون تفكير منه نتيجة انتمائه إلى مجتمع معين بما له من مفاهيم ومبادئ وتصورات عن الأشياء والحياة تمت تنشئته تربوياً على قبولها والتصرف على أساسها دون نقاش أو تمحيص أو نقد.
ثانياً- لقد استعمل الرجل صاحب الصوت المخالف أسلوب الفيلسوف (سقراط) في التهكم والتوليد بالتساؤل، حيث أقر أمامهم منذ البداية أنه لا يدافع عن المتهم وأنه لا يعتقد أبداً أنه غير مذنب، هو فقط قال (لا أدري) إن كان مذنباً أم لا لأن الأدلة المساقة لا تجزم بتجريمه.. فهكذا هدم أول درجة في سلم اعتقادهم البديهي فعندما يكون الحكم متعلقاً بحياة إنسان فلا ينبغي أن تقبل أدلة الاتهام أدنى نسبة من الشك المعقول.. على هذا الأساس صار يتساءل ويولد السؤال من السؤال، والقوم يجتهدون في التفكير والرد ليكتشفوا مع كل سؤال جديد يتولد من ردودهم ما في موقفهم من مواطن شك واحتمال المخالفة لم تكن في وعيهم وانتباههم، وهذا يؤكد أنه من تمام الوعي السليم والفطنة في كل الأمور التوقف دائماً والسؤال، وليكن السؤال للذات قبل الآخرين عما هي الأوجه التي يحتملها أي حكم من احكامنا التي نصدرها على الآخرين.. ولذلك كانت كلمة (الشك المعقول) هي المحور الذي دارت حوله دائرة توليد التساؤلات والإجابات مما يعني إما التساوي في احتمالية الحكم المؤيد والحكم المناقض وإما الكسر في بنية الحكم الواحد. ولعل هذا ما جرى عليه المبدأ الفقهي (درء الحدود بالشبهات) والمبدأ القضائي (الشك هو في مصلحة المتهم).. وفلسفياً –لمزيد من الإيضاح- يوضع (الشك المعقول) الذي هو يفرض نفسه على عقل الإنسان بفعل الملاحظة والتجربة بصدد ما كان يظنه يقينياً، في مقابل، (الشك المنهجي) الذي يقصد إليه الإنسان قصداً ويصطنعه اصطناعاً من أجل أن يبرر أحكامه ونتائجه التي توصل إليها بالفعل أو لكي يجعلها يقينية.
ثالثاً- الكثير من أبناء آدم في هذه الحياة يغلفون نوازعهم النفسية الذاتية الخاصة في أحكامهم على الآخرين بغلاف من البينات والأدلة الموضوعية.. فكان من بين الاثنا عشر رجلاً من تطرفوا في التمسك بالحكم على الفتى بأنه مذنب لا محالة، بل ولابد من إعدامه على الكرسي الكهربائي إمعاناً في تعذيبه، كل هذا وهم لا يعرفون الفتى مسبقاً ولم يروه قبل ذلك قط مما يثبت أن حرصهم على تحقيق العدالة والحق والقانون هو محض أمر ظاهري فقط بينما كان هدفهم الحقيقي الكامن في أعماقهم هو الرغبة في إشفاء غليل أنفسهم من أبناء هذا الجيل كله بأنهم جاحدون لآبائهم عاقون لهم، دون أن يفطنوا إلى أن هذا العقوق والجحود كانوا هم الذين أورثوه في نفوس أبنائهم بقسوتهم عليهم.. فيسقطون ما بدخيلة أنفسهم على القضية الموضوعية بلا حياد موضوعي.. وهكذا،إن أكبر الظلم في القضاء وفي معاملات الناس يقع بنحو هذا الإسقاط النفسي تماماً كما أثبت الفيلم.. وأن السؤال النقدي الصادق عن حقيقة مواقف الذين يحكمون يجعلهم يفطنون أن مشاعرهم هي التي كانت تحكم وليس عقولهم.
حتى (سقراط) الحكيم نفسه حكم عليه بالإعدام لاتهامه أنه كان يفسد أخلاق الناس في حين أن ما كان يقوم به هو فعلتنويري توعوي،ومن يحكمون لا يريدون ذلك فأسقطوا في حكمهم عليه بالإدانة والإعدام رغباتهم الذاتية وغلفوها بغلاف العدل والحق وأن هذا ما تريده الآلهة ليسوغوا لأنفسهم وغيرهمما أفكت يداهم.. وهكذا كثيراً ما نفعل نحن..
تم انتاج فيلم (اثنا عشر رجل غاضبون) في العام 1957م.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب