أنس العاقب: مسامرة ابداعية حول الغناء، والتلحين، والمسرح، والمعهد، والنقد، والشعر

أنس العاقب: مسامرة ابداعية حول الغناء، والتلحين، والمسرح، والمعهد، والنقد، والشعر

صلاح شعيب

 

تجربة أنس الإبداعية المتمددة في أكثر من مجال فني مثيرة للجدل والخلاف سواء بمواقفه التي يتخذها، أو لطبيعة القرارات التي تتعلق بمساره الإبداعي، والأكاديمي، أو حتى طريقته التي اتبعها في تحديث اللحن. ففي أول بدء مشواره ظهر ممثلاً قبل أن يصير فناناً ثم لاحقاً يترك احتراف الغناء ليصبح ملحناً، وأستاذاً للموسيقى يحمل دكتوراة في المجال، أطروحتها كانت بعنوان: الخصائص اللحنية والإيقاعية للطرق الصوفية، السمانية نموذجاً.

قصته الإبداعية بدأت حينما مسرحَ، وهو في رابعة وسطى كتاب طه حسين “ظهور الإسلام”، واختار ثلاث شخصيات من بينها الصحابي عمار بن ياسر، وحينئذ تمنى أن يكون مخرجاً سينمائياً في مستوى كمال الشيخ، فاهتم بالسيناريو، وأحب الدراما. ولما دخل مرحلة الثانوي كان ميالاً إلى التدين على خلفية الشيخ العاقب، ولما رأى أنه صار يمينياً تحول – في ملابسات مرحلة الستينات الضاجة بالأفكار التحررية – إلى الناصرية ثم صار يلهج بالدعوة إلى الاستقلالية الليبرالية، ثم انتمى لليسار، فتركه أيضاً.

القاص أبو بكر خالد سمعه حين أتى للعاصمة باحثاً عن الأضواء يغني للنخبة في بيت مشهور فكتب مسرحية من ثلاثة أجزاء بعنوان “اشياء صغيرة” حيث مثل أنس دور البطولة مع نادية جابر، ومشاركة الهادي صديق، وحسن عبد المجيد. وتحكي القصة عن شاب مغنٍ طموح جاء من الشمال إلى العاصمة ليبحث عن أضواء. فعمل موسيقى المسرحية، وغنى فيها بطلاً، ووفقاً لما يقول أنس وجدت المسرحية رواجا.

أما تجربة أنس العاقب الثالثة فحينما اسندوا له دوراً في مسرحية “ماكبث” عندما التحق طالباً بالمعهد، فاشاد به الفكي عبد الرحمن فقال “ود الموسيقي طلع بتحدث إنجليزي بشكل جيد، ومثل أحسن من طلبة المعهد”، ثم كتب يوسف خليل مسرحية “الخضر” من فاصل واحد. فمثل مع أنور محمد عثمان، وعوض صديق، وهاشم صديق، وصلاح تركاب قائما ًبدور المداح ولكن جهاز الأمن أوقف المسرحية بدعوى نصها الرمزي المعارض وحققوا مع الممثلين، وقد وجد أنس الإشادة لدوره الغنائي والتمثيلي.

بعدها عرض عليه صديقه آنذاك هاشم صديق ليقوم ببطولة مسرحية “أحلام الزمان” فمثل فيها بجانب هادية طلسم. ولما كان هاشم صديق نبتة حبيبتي اراد أن يكون أنس البطل فارماس مخرجها اختار مكي سنادة الطيب مهدي بدلاً عنه ولما أوقفت المسرحية، وحُولت لتكون تلفزيونية ببطولته مع تحية زروق فعرضت من ثلاثة اجزاء بمشاركة حسبو عبدالله، وقد ساهم بتقديم موسيقاها التصويرية.

أنتج أنس العاقب موسيقى تصويرية وأغانٍ لعدد ضخم من المسلسلات، من ضمنها “باب السنط” لسعد الدين إبراهيم التي أخرجها معتصم فضل، ثم مريود الطيب صالح التي كتب السيناريو لها عثمان جمال الدين، وكذلك ساهم في مسرحية “المدينة تحاصر عبدالله” لسعد الدين إبراهيم أيضاً.

وفي فيلم تاجوج لجاد الله جبارة الذي عُرض عام ١٩٧٧ قدم الافتتاحية الموسيقية لكل فصل، ولحن أشعارها التي غناها عبد العزيز العميري. كما قدم موسيقى تصويرية، وألحاناً، لأغاني فيلم “بركة الشيخ”. وكان للفنان سهم أيضاً في أعمال موسيقية لمسلسلات كثيرة. أهمها “قبل الشروق”، و“رجال حول الرسول” من ٣٠ حلقة، و”عمران” و”العرضحالجي”، وغيرها.

-٢-

أنس العاقب من مواليد بربر. هو من سليل أسرة دينية من جهة الوالد، وفنية من جهة الأم. فوالده حفظ القرآن الكريم في أكثر من ثلاث خلاوى، ثم التحق بمعهد أمدرمان العلمي، ولاحقاً سافر إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر تاركاً أسرته في قرية ود الشيخ، والمعروفة أيضاً بالبادراب الواقعة في شرق البارقة، إذ كان لديه ولد، وبنتان، من زوجته الأولى. لما عاد الوالد عرف أن صديقه في الأزهر قطن في كسلا، وساعدوه المراغنة، وفضلوا له عدم الاشتغال في الحكومة كقاضٍ شرعي فأوكلوا إليه مهمة داعية هناك.

وهكذا صار الوالد داعيةً في شرق السودان حيث افتتح بعد استقراره العديد من المساجد، في طوكر، وأرومة، ووقر، ومتتيب، والقضارف، ودرديب. وأقام الكثير من المدارس الشعبية بعد صلاة المغرب مثلما كان يقيم جلسات الذكر، ودراسات السيرة النبوية. صديقه ذاك زوج له تفضيلاً أخته رابحة رضوان التي كان لديها عشرات من الإخوان. فوالدها رضوان خليفة كان من أشهر المادحين في الشمالية مستقراً في الدامر. وبعد وفاته ورثت أم الفنان حفظ المديح فهي شاعرة، ومادحة، وتغني، وتلحن، كما سمعها ابنها أنس في مناسبات عدة. ويتذكر أن والده كان يملك صوتاً جميلاً، و يتلو القرآن الكريم في سحابة يومه. أما خاله عبد الوهاب رضوان فقد كان من أشهر شعراء الحزب الوطني الاتحادي، وكان خليفة للسيد علي. وخاله الآخر عبد القادر رضوان شاعر، وسيرته تترى في الإذاعة حيث عاش معه أنس فترة. ولا ننسى عمه عوض الله عبد النبي الذي هو واحد من مغني ربوع السودان، ومن أشهر أغانيه: “البتولة حلاتا يا زولة”.

هذا هو مناخه عند صباه في كسلا، بما فيه من حفظ معظم القرآن الكريم الذي لم يتمه حين التحق في كسلا بالمدرسة الأولية، والوسطى، وقضى مرحلة الثانوي في بورتسودان العليا. ولما أخفق في الدخول إلى الجامعة عمل في وزارة المالية ثم نُقل إلى زالنجي في دارفور محاسباً في مستشفاها. وهناك وجد فرقة صغيرة من الموظفين فانضم إليها عازفاً للإيقاع، تاركاً خلفه تاريخ انتمائه للإخوان المسلمين عندما كان في المرحلة الدراسية العليا مما أهلته تلك الوضعية ليكون مؤذن المدرسة بجانب حبه للغناء منذ صغره. فقد تعلم أصوله من زميله في العمل محمد الجبار الكونج، والذي كان يؤدي أغاني الكابلي قبل أن يلتحق بالإذاعة. فالكونج يأتي من إجازته – في مروي – إلى كسلا فيعزف بالعود في المدرسة أعمال الكابلي، وخصوصاً غناء القعدات، فحفظ منه أنس أغنية مروي، وكذا الأعمال التي منحها الكابلي لأبي داوؤد، وإبراهيم عوض، وتتلمذ عليه أنس الذي كان يحب أحمد المصطفى، ولا يغني له. ويتذكر أنه حفظ أعمال الكابلي لأنه لا يشبه غناء امدرمان.

حين أجاد عزف العود في زالنجي ترنم بهذه الأغاني. ولكن وفاة الوالد أعادته لكسلا، وما كان ينوي احتراف الغناء لكون أنه ابن الشيخ العاقب الذي خلف ذكرى طيبة كعالم، وإمام، وأقامه مساجد، ولديه خلوة، فضلاً عن مساهمته في نشر الوعي الديني.

ولما كان مغنيا للنخبة الخرطومية من السياسيين، والاطباء، والكتاب، والأثرياء، أجاز صوته عام ١٩٦٨ دخل المعهد العالي للموسيقى والمسرح في عام ١٩٦٩، ولاحقاً أجيز صوته ثم لاحقا قدم أغنية “بلدينا” للشاعر عبد الرحمن مكاوي فانتشرت ثم أردفها بأغنية “غلبنا الهوى” من كلماته ثم لحن للبلابل أربعة أعمال من بينها “ليل الشجن” و”عمر الهنا” وانطلق بشهرة البدايات. ولكن قلقه جعله يفضل التفرغ للدراسة، ولم يقترب من الغناء سوى لماماً في ذلك العام: ١٩٧١.

ولما توقف عن الغناء منح الحانه سوى للفنانين عماد احمد الطيب، ولاحقا محمود عبد العزيز، ولم يدخل في تجربة من الجيل الجديد الذي وصفه بانه عجول ولا يتخير ألحانه التي تحتاج إلى صبر لتشربها، وأدائها عبر بروفات متأنية بذات الطريقة التي يصك بها اللحن.

-٣-

د. أنس هَم عند الالتحاق بالتلفزيون، بجانب القيام بالتدريس في المعهد، في بدء التسعينات ليسودن بموسيقاه شعارات البرامج، والسهرات، حتى الأخبار، ثم قدم تجربة “المشاعل”. وهي من الأغنيات القصيرة التي لا تتجاوز الواحدة دقيقتين، وبلغت أكثر من مئة. ويفتخر أنس بهذه التجربة التي قال إنها تناولت مواضيع من ضمنها سرقة المال العام، والمخدرات، والتدخين، وينفي أنها ركوب في موجة النظام، وإنما هي ذات معانٍ وطنية متنوعة، وجذابة. ولكن أحدهم وشى بأن هلاوي وأنساً يساريان بطبعهما، وقصدا مضامين معاكسة للإنقاذ فأوقفوا المشاعل جميعها ما عدا مشعلي الحج، ومليون سلام.

للفنان أنس تجربة مع الفنان سرور قال عنها إنه في ذات يوم……….

 

 

وعن علاقته بالشعر يقول إنه..

 

المسامرة الإبداعية مع د. أنس بجانب متعتها سوى أنها محفوفة بالكثيرة من الأسرار التي يسمح الحيز بنشرها جميعها، سواء التي تعلقت بالأموال التي أهدرتها مايو في مشاريعها الاقتصادية، وهي من المنحة الموظفة جميعها للمعهد العالي من جانب الكوريين، أو الطريقة التي رد بها عليه كبار الموسيقيين حين احتج على تحويل يوم بروفته بالإذاعة للفنان عثمان حسين، أو صراعه مع بعض أساتذة وإداريين في المعهد. وهناك الكثير الذي سنقوم بتضمينه في كتابنا الخاص عن الملحنين الذي آمل أن يكتمل قريباً، وحينئذ سنضمن كل ما قاله ليبقى تاريخاً ربما يفيد الأجيال القادمة.

عوداً إلى بدء، يمكن القول إن فضاء التجربة الإبداعية والعملية للدكتور أنس العاقب – بتعددها في شغل الخدمة المدنية ثم انتقالها إلى مساحات الدراما، والمسرح، والترجمة، والغناء، والتلحين، والنقد، والتدريس الجامعي، والعمل بالتلفزيون، تظل موئلاً لدراسة تجربته كمبدع خلق قبسات من الجمال في كثير من هذه المناحي التي ساهم فيها بكل قدرته في الإضافة الثقافية ذات الطابع الفني.

ولعلي ألحيت عليه كتابة مذكراته لإحداث الرصد، والمراجعة، خصوصا أنه شاهد عصر في كل هذه المجالات التي شهدت اجتهاداته الإبداعية، وما يزال قادراً على العطاء متى ما توفرت له مساحة أكبر للاستفادة من علمه الموسيقي، وتجربته اللحنية المميزة، في ظل ظروف يحتاج فيها الجيل الحالي إلى النصح، والإرشاد، والنقد، بما يعزز مساره في تنمية الإبداع السوداني على وجه العموم.