البروفيسور “زكي مكي إسماعيل” رائد التأليف والنشر لـ(اليوم التالي): الوضع الاقتصادي جعل الكثير من البحوث والدراسات حبيسة الأدراج 

 

نهج التأليف والنشر عملية مهمة للأستاذ الجامعي

وصيتي لكل خريج وشاب ترك الوظيفة والدخول للسوق

بدون تأليف يظل الأستاذ الجامعي ساكناً في مرحلة واحدة

بروفيسور زكي مكي إسماعيل يعتبر موسوعة وعالماً سودانياً بكل ما تحمل الكلمة من تفاصيل، سيرته حافلة بالإنجازات والعطاء في جميع المجالات العلمية والعملية المليئة بالتحديات، وهو حاصل على البكلاريوس والماجستير والدكتوراة في إدارة الأعمال من جامعة القاهرة 1981، جامعة عين شمس 1985، وجامعة النيلين 1999م، وهو أستاذ إدارة الأعمال (بروفيسور) جامعة النيلين، ورئيس قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة جامعة النيلين في العام 2011، كذلك صاحب التخصص الدقيق في إدارة الموارد البشرية والصناعية، وأيضاً معار بالجامعات السعودية لست سنوات وعاد في يوليو 2017 لجامعة النيلين وما زال.

ونشير إلى أن البروف زكي أثرى المكتبة السودانية والعربية بعدد (42) مؤلفاً، إضافة إلى مجالات الإبداع والأدب، وتجاوزت مؤلفاته نطاق المحلية إلى العالمية وذلك بفوز قصيدته الملحمة العصماء (ارهاف) بالجائزة الأولى على مستوى العالم العربي متفوقة على (3500) شاعر عربي بلندن في العام 1995، أثرى الوجدان السوداني بالعديد من القصائد المغناة التي تغنى بها فنانون كبار أمثال عثمان اليمني، عبد الرحيم أرقي، محمد كرم الله ومعاوية المقل وغيرهم.

البروفيسور زكي يعتبر رائداً في مجال التأليف، مشدداً على ضرورة نشر ثقافة التأليف وسط أساتذة الجامعات، كل هذه الحياة الثرة والعطاء والإنجاز العملي أرغم ولايته وجامعة النيلين وأصدقاءه ومعارفه وطلابه وأهله بتكريمه وفاءً لما قدم من مجهود وعلم، (اليوم التالي) استبقت التكريم وجلست إليه في حوار يجسد قليلاً جداً من حياته العلمية.

حوار- النذير دفع الله

* النشأة والمولد والبيئة التي شكلت زكي مكي؟

المولد في منطقة المنحى بمحلية الدبة بالولاية الشمالية، من أسرة تقاسمت الأم والأب مزيجاً لعدد من قبائل المنطقة الوسط ما بين منطقة الدناقلة والشايقية والغالب فيها منطقة البديرية التي هي منطقة تمازج قبلي بين البديرية والمحس، المنطقة التي جادت بالعملاق والأديب الطيب صالح فهي على مرمى حجر من منطقتي، خليط من قرى البديرية والجعافرة والمحس، هذا التمازج ولد الإبداع في الأسرة، فأخي قاسم مكي كان خطاطاً على مستوى السودان، جيد الرسم بطريقة احترافية، فالتمازج في منطقة البديرية مثل الخلطة الطينية ولدت الطيب صالح، فالدبة وكرمكول هي منطقة الوالد، لذلك فأنا مشبع ببيئة تمثل فيها الطبيعة والإبداع شيئاً فطرياً.

* ماذا تمثل أهمية التدريب والتأليف بالنسبة للأستاذ الجامعي؟

ثقافة الكتابة غير موجودة في السودان للظروف الاقتصادية ووضع البلد، فتجد قارئاً ممتازاً في السودان، ولكنه لا يستطيع أن يعكس ذلك في التأليف، فالاطلاع والكتابة والتأليف تمكن الطلاب أو الأستاذ من عدم الركون والسكون في نقطة ثابتة، ومثال ذلك لديّ أحد الأصدقاء طبيب من الذين أضافوا لعلمهم المزيد من خلال الدراسة بلندن، فأكد أنه طوال فترة عمله كطبيب امتياز كان يعطي المرضى (انتي بايوتي فورم) بأنه علاج للدوسنتاريا، وفي بريطانيا اتضح أن العلاج يتسبب في بعض امراض السرطانأ فتم إغلاق مصنع الدواء منذ (12) عاماً وبيعت كل الكميات للدول النامية، الأمر الذي يدعو للاهتمام بالبحوث والتأليف والاطلاع والدراسات .

* ما هي الأعمال التي امتهنتها قبل التوظيف في مجال الأكاديميات؟

أنا لا أستحي ولا أخجل من أي عمل عملته أو أي مهنة أمتهنتها خلال مسيرة حياتي، فأنا عملت في شتى المجالات العملية، ابتدءاً بحش البرسيم وعملت في محل (عماري) وعامل يومية وجرسوناً في السوق وسائق تاكسي، كنت أحمل (المسطرينة) بالشمال والقلم باليمين، قطعت الجامعة وتغربت في زمن مبكر جداً.

* لديك موقف وأنموذج استخدمته كسابقة في مؤلفات بعض الكتب التعليمية مع رجل الأعمال (ود الجبل) عليه الرحمة؟

التقيت برجل الأعمال بابكر ود الجبل عليه الرحمة، في العام 1982 بالصدفة، وكان قد ذكرته في بعض كتبي في إدارة الإنتاج، وقلت للطلاب هنالك عميل يقوم بطلب طلبية بمواصفات خاصة من شركة محددة، تقوم الشركة بتنفيذ الطلبية بسعر أعلى ومثال لذلك (بابكر ود الجبل) الذي طلب من شركة مارسيدس مواصفات خاصة له تتعلق بتعلية سقف العربة التي تعيق (عمامتة) المشهورة أثناء الركوب والنزول من السيارة، والتقيت به بعد مرور عشرين عاماً في العام 2002 وأخبرته أنني ذكرت هذه الواقعة في بعض الكتب، بعدها طلب مقابلتي وإحضار بعض الكتب وصادف وقتها أنني طبعت عدد (20) كتاباً دفعة، وطلب مني كتاباً فيه ذكرياته كاملة ويقوم هو بكل التكاليف والتنازل عن عائد الكتاب، ولكن شاءت الارادة بعد الاتفاق أن أسافر خارج السودان ولم نلتقِ مرة أخرى حتى رحيله .

* لقد غامرت برهن منزلك لتغطية طباعة عدد من الكتب، ما هي القصة؟

هذه التجربة لم تكن الأولى، وقتها كنت أمتلك منزلاً في حي أركويت مربع (61)، وكان من أجمل البيوت في المربع، حيث كان يطلق عليه مسمى (بيت أبو ظبي)، بعت هذا المنزل وأنفقت مبلغه في دراسة الماجستير في القاهرة، وكررت التجربة مرة أخرى ورهنت منزلي الذي أسكن فيه الآن بمبلغ (50) مليون جنيه لصالح البنك السوداني الفرنسي، وذلك لأجل طباعة (20) كتاباً بحيث لم تكن هنالك أي ضمانات لأن يتم بيع هذه الكتب، كان ذلك في العام 2009 وبعدها قمت بزيارة مدير عام الشرطة وقتها الفريق عادل العاجب وعرفت نفسي، حيث كانت الكتب عبارة عن هدية فقط، وبعد النقاش حول كيفية الطباعة وما قمت به من مغامرة اندهش لهذا الأمر كيف تمكنت من طباعة (20) كتاباً دفعة واحدة، بعدها هاتفني مكتب المدير العام يطلب فاتورة لعدد (150) كتاباً من كل نسخة باعتبارها تساوي ثلث الكمية، فكانت الكمية التي اشترتها الشرطة قد حلت كل المطلوبات وفك رهن منزل الأولاد والذي كان مخاطرة كبيرة، ومن هنا صوت شكر وتحية أبعثها للفريق عادل العاجب مدير جامعة الرباط الحالي.

* ما هو أثر التأليف بالنسبة للأستاذ الجامعي وأثر ذلك على العملية التعليمية؟

التأليف للأستاذ الجامعي حالياً غير موجود، وثقافة الطباعة للأستاذ الجامعي أيضاً غير موجودة، خلال دراستي للماجستير في العام (85) من جامعة عين شمس في القاهرة، لم أجد في المكتبة إلا مرجعين فقط لكتاب سودانيين، كتاب اسمه (الضرائب في السودان) للدكتور علي سليمان وآخر للبروفيسور عثمان إبراهيم السيد (إدارة تقويم المشروعات)، مرجعان فقط، أما في مصر القريبة لا تتم الترقية في المهنة إلا بعد تأليف كتاب، وهو أمر غير معمول به في السودان، لأن ظروف الحياة جعلت عدداً من الدكاترة لا يتمكنون من عملية البحث لزيادة المعرفة لديهم، والمقولة المتكررة (القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ) حقيقية، يوجد قارئ ممتاز جداً في السودان لا يستطيع أن يعكس ذلك في طباعة كتاب جراء هذا الاطلاع الكبير، ولكن مؤخراً تراجع الأمر كثيراً، نلاحظ ذلك من معرض الخرطوم للكتاب، لا يوجد إقبال كبير ولا يوجد شراء للكتب .

* هل الوضع الاقتصادي أثر في عملية التأليف للبعض أم لا توجد ضمانات لتغطية قيمة الطباعة؟

هذه حقيقة، ضعف الوضع الاقتصادي أثر على إمكانات النشر، مثلاً أنا لديّ (33) مؤلفاً من جملة (43) ذهبت بها إلى مطابع السودان للعملة باعتباري أكبر عميل لديهم، الفاتورة بعد التخفيض (47) مليوناً، وهي تكلفة عالية جداً لا يمكن لأي شخص أن يطبع، تكلفة الطباعة بين (1-4) ملايين وهو مبلغ لا يستطيع الأستاذ الجامعي توفيره في ظل الظروف الحالية .

* هل الكليات الخاصة أثرت في تراجع الجامعات الحكومية من خلال تفضيل الأستاذ الجامعي للكليات؟

الكليات الخاصة تمتاز بالاستقرار، فهيئة التدريس تأتي من جامعات أخرى برواتب ضخمة وبعض الامتيازات الأخرى، وهو ما يشكل نقطة ضعف، أما الجامعات الحكومية يشوبها عدم الاستمرارية من الإضرابات، فالحسنة الوحيدة للتعليم الخاص هو الاستمرارية والتخرج في الزمن المحدد مقابل التعليم الحكومي .

* كم عدد الكتب والمؤلفات التي ألفتها وكيف تمكنت من تقسيم الوقت بين التأليف والعمل والأسرة؟

يمثل حب الإطلاع والقراءة وقوة العزيمة منذ الصغر الدافع للمعرفة، وبالتالي لم أجد عناءً في التأليف، قمت بتأليف (43) كتاباً ما بين العلمية والأدبية والثقافية والأكاديمية، وأشرفت على (206) باحثين من حملة الدكتوارة والماجستير والدبلوم العالي، وعدد (110) بحوث دكتوارة و(89) بحث ماجستير و(7) بحوث دبلوم عالي، بجانب مجموعة أخرى خلال الفترة الأخيرة لم يتم رصدها، وخرجت (174) باحثاً من حملة الدرجات العليا للدكتوارة، كما حكمت (470) بحثاً علمياً، شملت (360) بحث درجات عليا و(110) بحوث وأوراق عملية للترقي ولمجلات علمية ومؤتمرات ضمنها (5) كتب علمية.

* لماذا قررت العودة واختيار الاغتراب مرة أخرى بعد هذا العمر؟

– هاجرت للمملكة العربية السعودية منذ سنوات عديدة لظروف اقتضتها متطلبات الحياة التي تحتاج لمزيد من العمل لمواجهة متطلباتها، فاخترت المملكة العربية السعودية، حيث كانت فترة ممزوجة بالأكاديميات والعمل، بعدها نزلت المعاش وحالياً أقوم بالترتيب للاغتراب والعودة مرة أخرى للمملكة العربية السعودية ويتملكني الحزن والألم بعد هذا العمر والسن أن أعود للاغتراب مرة أخرى والموت خارج أرض الوطن، فأنا قاسيت وعانيت من مرارة الظلم في وطني ابتداءً من المماطلة في الإجراءات القانونية التي تتعلق ببعض المستأجرين لمنزلي وهذه قصة طويلة، والأمر الثاني تم إرغامي للتنازل عن مشروعي الزراعي الذي قمت بشرائه منذ وقت طويل، فأنا الأستاذ السوداني الوحيد الذي تقدم باستقالته في العام 2017 لأجل العودة للوطن وقضاء بقية العمر في راحة بال، ولكن ما وجدته من تعامل غير جميل دفعني لفكرة العودة مرة أخرى.

* أطلقت مبادرة تكريم وجدت تجاوباً وتفاعلاً كبيراً، حدثنا عنها وعن الهدف؟

هي مبادرة جاءت بعد أكثر من (43) عاماً وتسمى مبادرة (ليه ما نكرم أساتذتنا)، وهي كانت فكرة لتكريم أساتذتنا الأوائل، اتصلت ببعض الزملاء الذين رحبوا بالفكرة ولم يكلف الأمر وقتاً، لأن معظمهم يشغلون مناصب كبيرة في الدولة، وبدأت العمل في برنامج التكريم، وكان ضمن الذين تم تكريمهم الأستاذ المنصوري، أنا فارقته قبل (44) عاماً، والذي قال منذ أن نزلت المعاش قبل (15) عاماً (ما في زول جايب خبري)، والله لو لم أجد عربه تقلني من الدبة لحضور البرنامج لأتيت راجلاً، وكان التكريم أول حادثة في زماننا وحتى الآن وهي (التكريم قبل التأبين).

* نصيحة تقدمها للشباب من خلال تجربتك العملية؟

نصيحتي ما قاله المهندس عثمان أحمد عثمان بعد خمسين عاماً من مهندس صغير يمشي على السلم إلى أكبر شركة مقاولات وإنشاءات في العالم (المقاولون العرب)، عندما سئل عن تجربته في الحياة كرجل أعمال ناجح بماذا توصي الشباب لمواجهة الحياة، قال أنا أوصي كل الشباب مهما كان التخصص في هندسة أو الطب أو غيره باعتبار كل الخريجين من هذه الكليات يتم توظيفهم مباشرة، أنصحهم بترك الشهادة جانباً والدخول للسوق، أنا نقلت هذه التجربة والفكرة لابني الذي رفض من وقتها أن يعمل بأجر أو راتب لذلك أنا أيضاً أنصحكم بترك الوظيفة والدخول للسوق والعمل الحر، أنا تركت الجامعة وغامرت بالذهاب للسعودية بعُمرة فقط.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب