عملية سياسيّة أم مأزق الاتفاق الاطاري
أحمد يعقوب
يبدو أن أزمة العقل السياسي السوداني؛ تتبدّى بوضوح الان وأكثر من أي وقت مضى؛ ومآزق هذا العقل نتيجة مباشرة لتكوّنه وفق نسق يسوده التشظي والاحادية والاتغلاق والانفراد؛ عقل يؤمن بخرافة إنجاز الانتقال بكتلة واحدة ؛ وتتمظهر فرديته واحاديته في كونه يريد أن يشكل المشهد السياسي بأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي تم اختيارها أو استيلادها بانتقائية ووفقاً لما يراه وضمن مكونات تتناحر مع بعضها في كل حين. وكعقل كسول وغير منضبط في توصيفاته واصطلاحات المفاهيم التي يطلقها كمصطلح ومفهوم” العملية السياسية”.
تُعرف “العملية السياسية” كنظرية باسم “نظرية الفرصة السياسية” ، وهي تقدم شرحًا للظروف والعقلية والأفعال التي تجعل الحركة الاجتماعية ناجحة في تحقيق أهدافها. وفقا لهذه النظرية ، يجب أن تكون الفرص السياسية للتغيير موجودة قبل أن تتمكن الحركة من تحقيق أهدافها. بعد ذلك ، تحاول الحركة في نهاية المطاف إحداث التغيير من خلال البنية والعمليات السياسية القائمة.
يُطلق مفهوم العملية السياسية حين تنخرط القوى الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة والمؤسسات الرسمية والنشاطات العامة والقرارات الحكومية التي تقوم عادة بتشكيل وإدارة الشؤون السياسية للأمم والشعوب. وحين تؤدي تلك العملية مهامها من خلال تنظيم العلاقة بين الشعب والسلطة، والتجاوب مع الاحتياجات السياسية على المستوى المحلي ورسم السياسة العليا للدولة علي المستويين الوطني والعالمي. كما تقوم تلك العملية أيضا بتعديل أو تغيير تلك السياسات كلما اقتضى الأمر ذلك. وتخضع القرارات والنشاطات السياسية في العادة لمفهوم المصلحة الوطنية الذي تحدده الفلسفة العامة للمجتمع وبراديغماته الاجتماعية . ويُفهم من هذا التعريف أن العملية السياسية لا تطلق الا في حالة وجود مؤسسات دستورية موجودة في الاصل؛ومهمة العملية السياسية الارتقاء بالمؤسسات السياسية للدولة واستيعاب المتغيرات التي تطرأ على المجتمع باستمرار.
تعتبر نظرية العملية السياسية (PPT) النظرية الأساسية للحركات الاجتماعية وكيفية حشدها.تم تطوير العملية السياسية من قبل علماء الاجتماع في الولايات المتحدة خلال السبعينيات والثمانينيات ، استجابة للحقوق المدنية ، والحركات المناهضة للحرب ، والحركات الطلابية في الستينيات.
يُنسب الى عالم الاجتماع دوجلاس ماك آدم ، وهو الآن أستاذ في جامعة ستانفورد تطوير هذه النظرية من خلال دراسته لحركة الحقوق المدنية السوداء؛ ويصف عالم الاجتماع نيل كارن في مداخلته حول النظرية في (موسوعة بلاكويل لعلم الاجتماع) بأن نظرية العملية السياسية تشكلها خمسة مكونات أساسية وهي التي تحدد نجاح أو فشل الحركة الاجتماعية وهي: الفرص السياسية التي تجعل التغيير المراد ممكناً ، وحشد الهياكل حين تعمل المنظمات أو المؤسسات كهيئات تعبئة لحركة اجتماعية ، وتأطير العمليات حيث تعمل على تعزيزالإقبال الأيديولوجي بين أعضاء الحركة ، وأعضاء المؤسسة السياسية ، والجمهور بوجه عام وهو أمر ضروري للحركة الاجتماعية لاغتنام الفرص السياسية وإحداث التغيير. يصف ماك آدم وزملاؤه التأطير على أنه “جهود إستراتيجية واعية من قبل مجموعات من الناس لتصميم فهم مشترك للعالم ولأنفسهم هذا العمل الجماعي الشرعي والتحفيز” ، وتكتمل العناصر بدورات الاحتجاج ، والنزاعات. والوسائل.
ما يشهده مسرح بلادنا هو عسر الانتقال ويمكن تلخيص ذلك في أن الثورات تمر بعد فصل النجاح الأول بمرحلة انتقالية، هذه المرحلة تكون مرحلة تراجع للأنظمة (تراجع تكتيكي في أغلب الأحايين)، ويمكن للشعوب أن تستثمر هذه المرحلة الانتقالية لتحقيق تحول ديمقراطي يضمن عدم عودة النظام القديم، وعدم تحول الثورة إلى حرب أهلية، وعدم وصول الدولة إلى حضيض الفشل الذي يؤدي إلى انهيار المؤسسات، أو إلى انقسام الدولة نفسها.
وستستغرق مرحلة الانتقال في بلادنا فترات طويلة، بفعل بُطء أو ارتباك الخطوات أو سيطرة الصراعات. إن الصراعات السياسية بدت أعْنف وأكثر عُمقا وجِذرية، مما كان متصورا بالاضافة الى الانقسامات وسط القوى التي تتفتت كل يوم. بجانب كثرة الاحتجاجات والمطالب الفِئوية، فيما تواجه الدول حالة من تقلّص المواردوالتعارضات الخاصة ببناء النظام الجديد، بمؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية.
أضف إلى تلك الأسباب، طبيعة العلاقة بين الثورة والتحوّل الديمقراطي، أي بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية والسلبيات المُزمنة التي خلّفها النّظام السابق في كل مؤسسات الدولة الحيوية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا، على نحو تتحوّل معه إلى عقبات هيكلية أمام الثورة. وتصاعد التدخّلات الدولية والإقليمية داخل بلادنا، بطريقة قد تُربك أو أربكت المُعادلات الداخلية. هذه القضايا دون تشكيل كتلة تاريخية وتوافق وطني لايمكن بأي حال من الاحوال ان تدعي كتلة او حزب محدد القدرة على انجاز انتقال سلس وتحول ديمقراطي دون وحدة كل القوى المستفيدة والراغبة في التغيير.
مايحدث الان هو أن الاتفاق الاطاري في مأزق ؛ وبدا أن المشاركين فيه يتحسسون مواقفهم ويعيدون بناءها . فنحن نشهد تصريحات هنا وهناك توحي في جوهرها بأن الاتفاق لم يعد بامكانه الصمود في وجه العواصف والاستقطابات السياسية والتشظيات والتنافر اليومي؛ لانه ولد معزولاً من القوى التي يمكن أن تسنده؛ ولانه احادي التوجه ؛ حيث تسعى كتلة محددة للسيطرة على وهندسة المشهد السياسي ووراثة النظام القديم بشموليته واحاديته. في متن هذا الاتفاق تقبع التوجهات ببناء شمولية جديدة سلاحها التخوين والعمالة لكل من يخالفها وقدانصب اهتمام مجموعة من الباحثين في منتصف القرن المنصرم على تحليل ظاهرة الشّعبوية ومحاولة تقديم تعريف معين لها، فكانت أهم خلاصاتهم تشير إلى غياب تعريف محدد للظاهرة، سواء تم ربطها بسياق خاص أو ضمن سياق عام، وأقصى ما يمكن القيام به هو تحديد العناصر التحليلية للظاهرة حسب سياق نشأتها وشروط تناميها ويشكل تقسيم الشعب واحتكار تمثيليته، والدفاع عنه ، وتخوين الآخر، باعتباره يدافع عن مصالحه الخاصة، العناصر الأساسية المعتمدة في الخطاب الشّعبوي وهو نتاج مباشر لأوهام المؤامرة.
القضايا التي انبرى لها الاتفاق الاطاري هي قضايا مؤتمر دستوري بامتياز. وهي قضايا لن يتحقق انجازها دون توافق ؛وعلى سبيل المثال فان قضية السلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا بناء الدولة والانتقال ولن تؤدي الورش التي اقيمت في هذا الشأن الا بتوسيع الهوة بين الاطراف. تؤمن الاحزاب التي وقعت الاتفاق الاطاري والواجهات التي تم حشدها بان الدعم الدولي للاتفاق كفيل بانجازه وتحققه ؛ وهي مفارقة وقفز على تاريخ العمل السياسي وأرشيفه ببلادنا وادعاء كاذب لاحتكار الشعب وتمثيله خاصة وان مصطلح ( جماهيرنا) أصبح مرادفاً لحالة عدم وجود جمهور أساساً فهو ضد ما تم .
عقلية الناشط السياسي ؛ تحاجج بأن الخطابات الشعبوية وادعاء التمثيل وحشد الواجهات يمكّن لها الانفراد بالمشهد السياسي وهندسته وهي غفلة عظيمة. فهل نحن في خضم عملية سياسية أم نعايش مأزق الاتفاق الاطاري.
مقترح للقراءة:
من التعبئة إلى الثورة (1978) ، من تأليف تشارلز تيلي.
“نظرية العمليات السياسية” ، موسوعة بلاكويل لعلم الاجتماع ، من تأليف نيل كارين (2007).
العملية السياسية وتطور التمرد الأسود (1982) لدوغلاس ماك آدم.
وجهات نظر مقارنة حول الحركات الاجتماعية: الفرص السياسية ، هياكل التعبئة ، والإطار الثقافي (1996) ، من قبل دوغلاس ماك آدم وزملائه.