التحول الديمقراطي.. المفهوم والآليات

التحول الديمقراطي.. المفهوم والآليات

*

النذير إبراهيم العاقب

*

منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في الثالث عشر من سبتمبر 2019م، وتمددها لتشمل كل مدن السودان، انتهاءً باعتصام القيادة الذي أفضى بدوره إلى الإطاحة بحكم المؤتمر الوطني الذي جثم على صدر السودانيين ثلاثون عاماً بالتمام والكمال، منذ ذلك الحين والشعب السوداني يسعى لترسيخ مبادئ الحكم والتحول الديمقراطي في البلاد، بيد أن كل محاولاته باءت بالفشل، ومرد ذلك للعديد من الأسباب، والتي شاركت فيها كل مكونات الحكومة السودانية، سواءً كانت الحكومة المدنية التي دام عمرها لثلاث سنوات، ومكوناته من أحزاب التحول الديمقراطي، بمناكفات قياداتها التي أفضت بالمكون العسكري للإطاحة بها عبر قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر، والتي بدورها أعادت البلاد إلى دائرة التدخلات الخارجية وفرض المجتمع الدولي لعقوبات صارمة على السودان.

تلك الأحداث أدت بدورها لتحركات فاعلة وعاجلة من قبل الكثير من الوطنيين وكذلك الأمم المتحدة لأجل التوصل إلى اتفاق نهائي وشامل بين كافة المكونات السياسية السودانية للتوصل إلى تشكيل حكومة قومية ديمقراطية حقيقية وبإمكانها إنزال برامج وأسس ومبادئ التحول الديمقراطي على الأرض، وهو الأمر الذي قادنا للخوض في هذه القضية الملحة، إثر مشاركاتنا في العديد من ورش العمل التي أعدها مكتب الأمم المتحدة في السودان خلال هذا الشهر للتوصل إلى حلول دائمة لترسيخ نهج الحكم الديمقراطي المستدام في السودان.

وللخوض في هذه القضية الملحة، لابد بدءاً من التعريف بالتحول الديمقراطي أولاً، والذي يعني وفق المفهوم الدولي بأنه، عملية الانتقال من الحكم الآتي عبر الانقلابات العسكرية، أو حكم الفرد أو الحزب الواحد أو النخبة، إلى الحكم الديمقراطي، حيث الأغلبية تمارس الحكم عبر المجالس النيابية، وقد شهد العالم في السبعينيات والثمانينات مروراً بالتسعينيات، وحتى نهاية القرن الماضي، واحدة من الظواهر السياسية ذات الأهمية البالغة والتي لم يتوقعها، أو يتنبأ بها القادة السياسيون والمفكرون أو دارسو الديمقراطية، والمتمثلة في انتقال عدد كبير من دول العالم من أنظمة حكم استبدادية وشمولية إلى أنظمة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية.

والتي سميت بالموجة الثالثة للديمقراطية، من منطلق أن تاريخ الديمقراطية في العالم ليس عبارة عن حركة تقدم بطيئة مستمرة، وإنما موجات متلاحقة من التقدم والانطلاق أو التراجع والانكفاء، وقد بدأت أولى تلك الموجات في أعقاب الثورة الأمريكية 1776م، والفرنسية 1789م، واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد وصل عدد الدول الديمقراطية في تلك الفترة إلى 29 دولة، ومن ثم بدأت المسيرة الديمقراطية بالتراجع، ولا سيما بعد وصول هتلر وموسوليني إلى السلطة في كل من إيطاليا وألمانيا على التوالي، حتى أنه بنهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن عدد الأنظمة الديمقراطية في العالم يزيد عن 12 نظاماً.

أما الموجة الثانية فقد بدأت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وعودة الحكم الديمقراطي إلى ألمانيا وإيطاليا، ومن ثم بدأت المسيرة الديمقراطية بالتراجع أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، أعقبها الموجة الثالثة منتصف السبعينيات في جنوب أوروبا إذ قادت عملية التحول البرتغال بإنهاء حكم العسكر 1974م، واستمرت التحولات الديمقراطية في الثمانينيات والتسعينيات حتى الوقت الحاضر في كافة دول العالم، على نحو متفاوت، لدرجة أنه يمكن القول إن عدد الدول التي لم تهب عليها رياح الديمقراطية والتغيير في العالم لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، وللأسف يتركز معظمها في العالم العربي.

وفي هذا السياق ثارت العديد من القضايا التي تتعلق بمستقبل الموجه الثالثة للديمقراطية، وما إذا كانت ستنكفئ وتتراجع، كما حدث في السابق، أم إنها ستستقر وتتطور نحو مزيد من التحول الديمقراطي في المستقبل؟.

كما إنه لا يوجد تفسير نظري شامل ومتكامل لهذه الظاهرة التي لم يستطع أحد التنبؤ بها، فالتحول الديمقراطي مسيرة تحول طويلة ومستمرة ومعقدة، وهي عمليات متنوعة ومتعددة في مناطق مختلفة من العالم، وذات دوافع وأبعاد مختلفة، وتتم وقف آليات ومسالك ومؤسسات متنوعة، وبالتالي فإن إذا كانت الأسباب التي أدت إلى التحول الديمقراطي متعددة، وتختلف من مجتمع إلى آخر، فإن الثقافة السياسة تعد من أبرز العوامل المؤثرة في هذا الصدد، خصوصاً أن كافة البدائل للحكم الديمقراطي قد أثبتت فشلها، وفقدت مصداقيتها أو جاذبيتها، وقد أصبحت الديمقراطية نظام الحكم الوحيد المقبول لدى شعوب الأرض.

فالصراع بين الأفكار والأيدولوجيات لتنظيم المجتمع وبناء الدولة انتهى بانتصار الديمقراطية، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإفلاس الفكر الشيوعي. فالديمقراطية وما تشتمل عليه من قيم ومبادئ ومؤسسات، هي المفتاح الأساسي للحكم الرشيد.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه على الرغم من جسامة التغيرات التي حدثت في نهاية العقود الماضية، إلا أنه من المبالغ فيه أن نعدها نهاية للتاريخ، لا بل إن مقولة نهاية التاريخ قد قيلت أكثر من مرة في القرن الماضي، وإذا كان العالم قد شهد تحولات كبرى نحو الديمقراطية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فإنه شهد حركة في الاتجاه المضاد في عشرينيات والثلاثينيات، وكذلك الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ سقطت الأنظمة الديمقراطية في عدد غير قليل من دول العالم، وبالتالي فإنه من غير الحكمة الاعتقاد بأن رياح الديمقراطية ستستمر في المستقبل، وأن حركة التاريخ قد توقفت عند هذا الخيار الديمقراطي.

ولعل التعريف الأمثل للديمقراطية يتمثل في أن مشاركة مجموعة من حركات الانتقال من النظام غير الديمقراطي إلى النظام الديمقراطي، تحدث في فترة زمنية محددة وتفوق في عددها حركات الانتقال في الاتجاه المضاد خلال نفس الفترة الزمنية، فإن التحول الديمقراطي ببساطة هو عملية انتقال النظام السياسي من نظام غير ديمقراطي، سواء كان نظاماً ملكياً أو جمهورياً مطلقاً أو نظاماً عسكرياً سلطوياً أو ثيوقراطياً شمولياً، أو نظام حكم الحزب الواحد، إلى نظام ديمقراطي يتميز بالانفتاح والتعددية، والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان وغيرها من المبادئ والقيم الديمقراطية.

وقد يأخذ التحول الديمقراطي عدة أشكال أو نماذج تتمثل في ظهور نظام ديمقراطي جديد ينشأ لأول مرة بعد سنوات أو عقود من الحكم غير الديمقراطي، مثل التحولات الديمقراطية في دول أوروبا الشرقية وجنوب إفريقيا والفلبين والهند، لاستعادة النظام الديمقراطي بعد فترة من الحكم الدكتاتوري، وأيضاً والانتقال من نظام شبه ديمقراطي أو ديمقراطي مقيد إلى نظام ديمقراطي كامل لا رجعة عنه، مثل كوريا الجنوبية والمكسيك.

أما بخصوص الآلية التي تتم وفقها عملية التحول فتختلف من دولة إلى أخرى، لأسباب متعددة ومتشابكة محلياً وإقليمياً ودولياً، إلا أنه يمكن تلخيصها بآليات مبادرة النظام السياسي من تلقاء نفسه، بتبني النهج الديمقراطي وفتح المجال أمام كافة المكونات السياسية والحزبية والإثنية للمشاركة السياسية واحترام حقوقهم وحرياتهم، وذلك مثل ما حدث عندنا في السودان في عهد سوار الذهب عام 1986م.

فضلاً عن استجابة النظام السياسي للضغوط الشعبية المحلية المطالبة بالحرية والإصلاح، ولا سيما في ظل تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النظام السياسي، كما يحدث الآن في السودان، الأمر المحتمل أن يأتي التحول الديمقراطي لامتصاص الغضب الشعبي والاحتقان الداخلي، كإحدى الاستراتيجيات لمواجهة هذه الأزمات.

بجانب ممارسة ضغوط خارجية دولية على النظام السياسي لتبني الخيار الديمقراطي، مثل الضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي على نظام الآن على الحكومة السودانية الحالية،

ناهيك عن فرض النظام الديمقراطي بالقوة، وذلك بإزالة النظام غير الديمقراطي وإيجاد نظام ديمقراطي جديد، مثل ما حدث في العراق وأفغانستان، وتضافر أو اجتماع العوامل الداخلية والضغوط الشعبية مع الضغوط الدولية والعوامل الخارجية لتبني الخيار الديمقراطي.

وفي الختام فإنه يمكن القول إن النظام السياسي الذي يبادر من تلقاء نفسه باتخاذ قرار بتبني النهج الديمقراطي، هو النظام الذي يجنب نفسه الضغوط والتدخلات الخارجية، ويحقق لشعب الاستقرار والحرية، إذ إنه لا يتصور لأنظمة الحكم غير الديمقراطية أن تتمكن من البقاء في الحكم لفترة طويلة، دون أن تطور نفسها أو تستوعب ضرورة التغيير باتجاه أنماط جديدة من الديمقراطية والمشاركة السياسية وحقوق الإنسان، وذلك بما يتلاءم ومستلزمات العصر وتطلعات الشعوب، لاسيما وأن الديمقراطية لم تعد خياراً، بل ضرورة استراتيجية لضمان استقرار النظام السياسي، ومن أجل الحفاظ على مستقبله، الأمر الذي يستوجب على الحكومة والمكونات الحزبية السودانية كافة، استشعار الخطر الداهم الذي يحيط بالبلاد وشعبها المغلوب على أمره ومن كل الجوانب، جراء الضغوطات الدولية على الحكومة الحالية، والعمل بجد واجتهاد للتوصل إلى اتفاق سياسي نهائي يفضي إلى ترسيخ مفهوم الحكم الديمقراطي على الأرض، والبعد عن التناكف والتشرذم والخلافات السياسية التي لاشك أنها ستقود البلاد إلى ما لا يحمد عقباه.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب