السودان ودبلوماسية الغذاء

 

وفاق صلاح عبد العال مبروك

الدبلوماسية بمعناها التقليدي القديم تشمل العلاقات السياسية بين الدول فقط، أما الدبلوماسية بمعناها الحديث فتعني بأنها مجموعة القواعد والإجراءات التي تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية والممثلين لها بهدف خدمة المصالح العليا اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وإجراء المفاوضات.

أما (الدبلوماسية الاقتصادية)، فيقصد بها استخدام الدولة لمقدراتها الاقتصادية في التأثير على الدول الأخرى وتوجيه سلوكها السياسي في الاتجاه الذي يخدم المصلحة القومية لهذه الدولة وهي السياسة التي تنتهجها الدول بوجهان هما الترغيب والترهيب.

وتهدف الدبلوماسية الاقتصادية الى تحقيق جملة من الأمور منها، جذب وتشجيع الاستثمار وتحفيز التجارة وبالتالي زيادة في الصادرات والواردات، تأمين حقوق الملكية واستقرار وتعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية والمتعددة الأطراف والتي تشمل التفاوض على المعاهدات الاستثمارية واتفاقيات التجارة (بدعم الجهود الوطنية في توقيع اتفاقيات الازدواج الضريبي الثنائية ومعاهدات الاستثمار الثنائية)، التأثير في السياسات الوطنية الخارجية لصالح الشركات متعددة الجنسيات، فهي تقوم بمعالجة الحواجز المحددة التي تؤدي الى إعاقة المصالح التجارية للشركات المحلية وتوسيع العلاقات الاقتصادية المتنوعة بين الدول والمؤسسات الدولية عن طريق تقنيات معينة من أجل تحقيق نتائج مفيدة في مجالات التعاون الاقتصادي والسياحي والاستثماري لدعم في نهاية المطاف الاحتياجات طويلة الأجل للدولة التي تم تسليط الضوء عليها في إطار الرؤية الوطنية، (المعروفة أيضاً باسم اتفاقيات حماية وتشجيع الاستثمار).. ويكون العمل متواصلاً ما بين المؤسسات ذات الصلة مثال وزارة الخارجية ووزارة الاستثمار والتعاون الدولي بشكل وثيق مع وكالات ترويج الاستثمار والقطاع الخاص وصناديق الثروة السيادية، ومجالس الأعمال، وغيرها من الجهات الاقتصادية الفاعلة لضمان تحقيق نتائج ناجحة من خلال الدبلوماسية الاقتصادية وتقييم مستوى التكامل العالمي لاقتصاد الدول، وتعزيز جذب الاستثمارات الأجنبية بهدف خلق فرص عمل جديدة.

شهدت الدبلوماسية تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة.. وظهرت في ممارساتها مجموعة من المفاهيم الحديثة.

وفي عالم يتسم بالسرعة والحركية أصبحت الدبلوماسية من أهم الوسائل التي تمكن الدولة من مواجهة التحديات الخارجية وتحقيق التقدم والتطور، ونظراً لذلك فإن الدبلوماسية خرجت عن النطاق السياسي، واتسعت لتشمل الدبلوماسية الثقافية والأمنية والاقتصادية، وأصبح للأخيرة تأثير دولي يتسع يوماً بعد يوم، بسبب سياسة الانفتاح على العالم التي تعتمد على الموارد والمقومات الداخلية للدولة من جهة، والعلاقات الدبلوماسية مع الدول من جهة أخرى، وكذلك بسبب تأثير العامل االقتصادي وازدياد أهميته بشكل كبير، وكذلك نجد أن السياسة الخارجية، ترسم معالمها في كثير من الأحيان، أهداف اقتصادية، وهناك علاقة جدلية بين السياسة والاقتصاد حيث ارتبطت الصراعات السياسية بالمصالح الاقتصادية.

إن في معظم الدراسات المتعلقة بالدبلوماسية كمصطلح للدراسة والتفسير لفهم عملية اتخاذ القرارات في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية قد أضحت الدبلوماسية الاقتصادية إحدى الأدوات الرئيسية والضرورية للدبلوماسية العامة وخصوصاً ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ارتبطت هذه الدبلوماسية بشكل كبير بظهور المنظمات الاقتصادية الدولية مثل، صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وتداخل العلاقات وتشابكها بين مكونات المجتمع الدولي.

في الوقت الحاضر فإن الدبلوماسية الاقتصادية أصبحت تشمل جميع أوجه العلاقات الاقتصادية الدولية، أي أن الدبلوماسية الاقتصادية ذلك الفرع من الدبلوماسية الذي يهتم بالعلاقات الاقتصادية الدولية وأعرف بأنها: (مجموعة النشاطات والممارسات التي تهدف إلى صياغة مناهج وإجراءات اتخاذ القرارات على المستوى الدولي، حيث يتمثل نشاطها في التجارة، الاستثمار، الأسواق العالمية، المساعدات، الأمن الاقتصادي، والمؤسسات التي تجسد البيئة الدولية.

 

أهداف الدبلوماسية الاقتصادية

تهدف الدبلوماسية الاقتصادية إلى تحقيق جملة من الأمور منها، تشجيع الاستثمار والتجارة وبالتالي زيادة في الصادرات والواردات، تأمين حقوق الملكية واستقرار العلاقات الاقتصادية والتي تشمل التفاوض على المعاهدات الاستثمارية واتفاقيات التجارة، التأثير في السياسات الوطنية الخارجية لصالح الشركات متعددة الجنسيات، فهي تقوم بمعالجة الحواجز المحددة التي تؤدي إلى إعاقة المصالح التجارية للشركات المحلية وتوسيع العلاقات الاقتصادية دولياً بين الدول والمؤسسات الدولية عن طريق تقنيات معينة من أجل تحقيق نتائج مفيدة في مجالات التعاون الاقتصادي والسياحي والاستثماري.

للدبلوماسية الاقتصادية أهمية كبيرة على صعيد العلاقات الدولية لكونها تعمل على زيادة عمليات التدويل والترابط بين بلدان العالم من خلال حركتها على المستويين العالمي والإقليمي.

وبعد (دبلوماسية الكمامات) و(دبلوماسية اللقاحات)، ربما ندخل الآن فترة (دبلوماسية الغذاء).

 

الأمن الغذائي

إن الغذاء ضروري لنا جميعاً، ولكن هذا هو الحال بشكل خاص في البلدان النامية حيث يمثل جزءاً كبيراً من إنفاق الأسرة كما يعتمد العديد من هذه البلدان بشكل كبير على استيراد المواد الغذائية وتستورد منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص أكثر من 50٪ من حبوبها من أوكرانيا وروسيا، وكان قد سبق ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل قياسي خلال “الربيع العربي”، كما أن بلداناً أخرى، مثل النيجر أو مدغشقر أو الصومال، تواجه بالفعل أزمات غذائية حادة، وقد يتعرض لبنان أو تركيا لأزمات اقتصادية كبرى، كذلك تتعرض دول جنوب القوقاز، أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، لخطر كبير أيضاً بسبب اعتمادها الشديد على الواردات من روسيا وأوكرانيا.

إن انعدام الأمن الغذائي يؤدي لا محالة إلى زيادة التفاوتات، كان ما لا يقل عن 195 مليون شخص حول العالم يعانون من أزمات غذائية أو أسوأ في عام 2021، أي بزيادة قدرها 25٪ عن عام 2020؛ من المتوقع للأسف أن يزداد الوضع سوءاً..

وقد أدت الزيادات الهائلة في أسعار المواد الغذائية، إلى جانب ارتفاع أسعار الطاقة، إلى تفاقم التضخم الذي كان يرتفع بالفعل قبل الحرب الروسية الأوكرانية. فقد زاد الضغط على قدرة الحكومات على الإنفاق العام الذي تأثر بالفعل بعواقب جائحة كورونا، كما أن الإنفاق أكثر على الغذاء يعني أموالاً أقل تخصّص للضروريات الأخرى مثل التعليم والرعاية الصحية، وبالتالي تعميق الفقر العام.

إن منطقة جنوب الصحراء الأفريقية تعتبر بشكل عام أقل اعتماداً من شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط على الواردات الغذائية من روسيا وأوكرانيا، لكنها ستتأثر بسبب انعدام الأمن الغذائي الموجود مسبقاً والمرونة المحدودة في الميزانية لمواجهة الزيادات في أسعار المواد الغذائية، لا سيما في منطقة الساحل ومنطقة القرن الأفريقي.. في منطقة جنوب الصحراء الأفريقية، يمثل الغذاء حوالي 40٪ من الإنفاق الاستهلاكي للأسر مقابل 15٪ في الدول المتقدمة. ويمكن أن يتسبب الجفاف وتغير المناخ وجائحة كورونا واضطرابات السوق الناجمة عن الحرب الآن في جعل ما يقرب من 120 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء القارة. إن منطقة غرب أفريقيا معرضة للخطر بشكل خاص في هذا الصدد: فقد شهدت سلسلة من الانقلابات أو محاولات الانقلابات مؤخراً.

 

سلاح أو دبلوماسية الغذاء

بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أكد الاتحاد الأوروبي على الإبقاء على أن تكون أسواق السلع العالمية مفتوحة، وأن يتصدى للمضاربة، وأن يدعم النظام الغذائي متعدد الأطراف، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الأغذية العالمي ومجموعة العشرين والأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومن خلال التعاون الدولي الوثيق، التأكيد على منع مخاطر التراكم المفرط للمخزونات التي لا يمكن إلا أن تغذي المضاربة على الأسعار..

للتعامل مع انعدام الأمن الغذائي في مجموعة السبع.

وقد اقترح الرئيس ماكرون بالفعل نهجاً متعدد الطبقات في قمة مجموعة السبع الأخيرة يسمى مبادرة تعزيز القدرة على الصمود في مجالي الغذاء والزراعة  (FARM).

وقد أكدوا على مساعدة “شركائهم” في العالم النامي والناشئ من خلال الدعم المالي وغيره من أشكال الدعم.

وقد خصص الاتحاد الأوروبي بالفعل 2.5 مليار يورو في شكل مساعدات دولية بهدف التغذية للفترة 2021-2024، (1.4 مليار يورو للتنمية و1.1 مليار يورو للمساعدات الإنسانية)، ودعم النظم الغذائية في حوالي 70 دولة شريكة.

“إن الطريقة التي نتعامل بها مع أزمة انعدام الأمن الغذائي العالمية اليوم ستكون حاسمة لمكانة أوروبا الجيوسياسية في العالم غداً”.

 

أهمية استراتيجية

ربما كانت الأزمة الأوكرانية لحظة كاشفة لأهمية القمح السياسية؛ فعلى مدار السنوات الماضية، لم يعد القمح مجرد سلعة غذائية تُستخدَم في ضمان الأمن الغذائي وتلبية احتياجات أفراد المجتمع، بل بات أداة للتأثير السياسي وتعزيز النفوذ لعدد من الدول. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية عززت الأهمية الاستراتيجية للقمح؛ لعدة اعتبارات، في مقدمتها:

1 – احتكار إنتاج القمح: يسيطر خمسة منتجين للقمح فقط على أكثر من نصف إنتاج القمح العالمي، وهم: الصين، والهند، وروسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. ومع إضافة منتجين آخرين، كأستراليا وكندا، وأوكرانيا، تصل النسبة إلى أكثر من 80% من إجمالي إنتاج القمح العالمي، وهو ما يعني أن واقع إنتاج وتصدير هذه السلعة الاستراتيجية، يتسم بطابع احتكاري إلى حدٍ بعيدٍ؛ ما يسهل سيطرة الدول المنتجة للقمح على الدول المستهلكة، وإمكانية استخدامه أداةً دبلوماسيةً لتحقيق رغباتها.

2 – الاعتماد على القمح الروسي والأوكراني: تسهم روسيا وأوكرانيا سنوياً بأكثر من ربع الصادرات العالمية من القمح؛ أي بنحو 55 مليون طن، القسم الأكبر منها يُشحَن عبر البحر الأسود إلى مختلف الوجهات، وعلى رأسها الدول العربية التي أضحت في مقدمة دول العالم استيراداً للقمح الروسي والأوكراني، وتُعرف أوكرانيا باسم سلة غذاء أوروبا. وحسب العديد من التقارير، صدَّرت أوكرانيا في عام 2020، نحو 18 مليون طن متري من القمح، وهو الأمر الذي يضعها في المرتبة الخامسة عالميّاً ضمن أكبر مُصدِّري القمح

3 – أولوية الأمن الغذائي: أعادت الأزمة الأوكرانية الاعتبار إلى قضية الأمن الغذائي بعد أن توارت خلال السنوات الأخيرة خلف قضايا سياسية وأمنية؛ فقد برزت من جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ملامح أزمة غذائية ناجمة عن نقص في سلعة القمح، وهي سلعة ضرورية ترتبط بالنظام الغذائي في كثير من الدول، ومن ثم، يواجه عدد كبير من الدول بالفعل خطر انعدام الأمن الغذائي؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي المستمر، أو العنف المباشر في تلك البلاد. وحتى برنامج الغذاء العالمي يحصل على 50% من إمدادات الحبوب من منطقة أوكرانيا وروسيا، ويواجه الآن زيادات كبيرة في التكلفة في جهوده لمكافحة حالات الطوارئ الغذائية في جميع أنحاء العالم. ويُعضِّد هذه الإشكالية تقديرات برنامج الأغذية العالمي بأن هناك أكثر من 800 مليون شخص يُواجهون شبح الجوع في جميع أنحاء العالم، بينما يتأرجح 44 مليون شخص في 38 دولة من حافة المجاعة.

4 – التأثيرات الممتدة لارتفاع الأسعار: أدت الأزمة الأوكرانية إلى ارتفاع في أسعار القمح والمواد الغذائية؛ بسبب زيادة تكاليف النقل والشحن والتأمين من ناحية، أو بسبب الزيادات المتوقَّعة في أسعارها، من جراء انخفاض المعروض منها في الأسواق العالمية. وقد تؤدي قيود سلسلة الإمدادات الغذائية إلى زيادة الأسعار في جميع المجالات، حتى البلدان التي لا تعتمد على أوكرانيا أو روسيا من حيث الواردات الزراعية، قد تشهد ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية؛ بسبب زيادة أسعار الوقود التي تؤثر على تكاليف نقل الغذاء، وانخفاض إمدادات الأسمدة، ومن ثم تقلص الإنتاجية والإمدادات الزراعية العالمية.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب