السودان ودبلوماسية الغذاء (2-2)
وفاق صلاح عبد العال مبروك
النفوذ الدولي
كشفت الأزمة الأوكرانية الراهنة عن تصاعد توظيف القمح سياسيّاً في العلاقات الدولية، وهو التوظيف الذي اتخذ عدداً من المظاهر والتجليات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1. استخدام صادرات القمح الروسية أداةً دبلوماسيةً:
استمرت موسكو في استخدام القمح أداةً دبلوماسيةً مهمة في إدارة علاقاتها بالدول الأخرى، وهو التوجه الذي تعاظم خلال السنوات الماضية، وخاصةً بعد فرض عقوبات غربية على روسيا عام 2014، إثر قيامها بضم شبه جزيرة القرم؛ إذ لجأت موسكو بعد ذلك إلى فرض عقوبات مضادة، منعت بموجبها استيراد المنتجات الغذائية من أوروبا والولايات المتحدة، ودعمت الإنتاج الزراعي المحلي، لتصبح روسيا البلد الأكبر من حيث المساحات المزروعة بمحاصيل القمح، وفي عام 2017، أصبحت المصدِّر الأول للقمح في العالم، متجاوزةً الولايات المتحدة وكندا لأول مرة، ومُسيطرةً على معظم أسواق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، ومنذ ذلك الوقت، باتت الصادرات الروسية تمثل أداة دبلوماسية – اقتصادية في علاقات موسكو بالدول الأخرى؛ ففي عام 2015 حظرت روسيا نسبة من الصادرات الغذائية إلى تركيا ضمن مجموعة من الإجراءات للرد على إسقاط القوات التركية طائرة مقاتلة روسية، ولكن بعد عامين من هذا القرار استؤنفت الصادرات في ضوء تحسُّن العلاقات الروسية التركية، وخاصةً أن تركيا وافقت على نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وهكذا أصبحت أنقرة أكبر مستورد للقمح الروسي في عام 2019.
2. دور القمح في الحصول على الدعم الخارجي: وهو ما تجلى – بشكل أو بآخر – في السياسة الأوكرانية؛ إذ حاولت الدعاية الأوكرانية الحصول على الانتباه والدعم الدولي من خلال إرسال رسائل أن ما يجري لن يتوقف عند حدود الشعب الأوكراني، بل سيمتد إلى الدول الأخرى من زاوية أمنها الغذائي. وتعززت هذه الفرضية بفعل تراجع القدرة الإنتاجية الزراعية لأوكرانيا؛ حيث يقع الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجيةً في أوكرانيا في مناطقها الشرقية الواقعة بالقرب من المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية؛ ما يعني انخفاضاً حادّاً في إنتاج القمح، وتراجع صادراته نتيجة تدمير البنية التحتية الحيوية، والمعدات الزراعية، ومرافق تخزين الحبوب، والتسبُّب في نزوح جماعي للمزارعين، كما تم قطع طرق الإمداد البحري الرئيسية عبر البحر الأسود.
3. وسيلة للخروج من العزلة:
ظهر هذا النمط في طريقة تفاعل موسكو مع العزلة المفروضة عليها عقب تدخُّلها العسكري في أوكرانيا؛ حيث وظفت روسيا القمح من أجل توسيع دائرة علاقاتها ودفع الدول الأخرى إلى تجنب الانحياز نحو المعسكر الغربي في الأزمة. وفي هذا الإطار، أعلنت روسيا اعتزامها تصدير الغذاء والمحاصيل إلى “الدول الصديقة” فقط، على أن يباع بالروبل أو بعملات تلك الدول بنسب متفق عليها؛ ما يُعَد عامل ضغط على الدول المستوردة لتأييد الموقف الروسي.
4. تعزيز الحضور الدولي: حيث عبَّرت الأزمة الأوكرانية الراهنة عن مساعي بعض الدول إلى استخدام ورقة القمح في تعزيز الحضور على الساحة الدولية ودعم المصالح الاقتصادية؛ فمع بدء الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا، بدأ بعض منتجي القمح في جميع أنحاء العالم يزيدون إنتاجيتهم؛ فعلى سبيل المثال، سعت الهند إلى توسيع صادراتها من القمح، وحاولت عقد صفقات مع الدول الأخرى التي تضررت من تراجع إمدادات القمح الروسي والأوكراني، وهو أمر يتسق مع استراتيجية زيادة الإنتاج التي تبنتها الهند في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2021 _ 2022، أضافت الهند 5.75 مليون طن متري إلى تجارة القمح العالمية، وهي زيادة تغطي تقريباً النقص من أوكرانيا وروسيا بمفردها.
5. تشويه صورة الدول الأخرى:
شكَّلت الحرب الأوكرانية فرصة مواتية لاستخدام القمح ضمن حملات الدعاية المضادة والوصم الأخلاقي المتبادل بين الدول، ولعل النموذج الأبرز لذلك، تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا حول مسؤولية منع سفينة مُحمَّلة بالقمح الأوكراني كانت متوجهة إلى مصر؛ حيث نشرت السفارة الأوكرانية بالقاهرة يوم 4 أبريل الجاري، خبراً عبر صفحتها الرسمية على تويتر قالت فيه إن “القوات الروسية الموجودة في أوكرانيا تمنع سفينة الشحن إماكريس 3 المحملة بشحنة قمح أوكراني اشترتها الحكومة المصرية، من التوجه إلى القاهرة”.
وفي مقابل هذا البيان، نشرت السفارة الروسية في القاهرة بياناً نفت فيه الاتهامات الأوكرانية، وذكرت أن القوات الأوكرانية هي التي تمنع حركة السفن في مناطق “أوديسا وتشيرنومورسك”، كما أكدت أن “الأسطول البحري الروسي يضمن حرية حركة السفن التجارية، وأن السلطات الأوكرانية هي من تمنع خروج السفينة من الميناء”.
أزمة الخبز
هنالك ثماني دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باتت مهددة بأزمة خبز قاسية، وعلى مستوى العالم، فإن المعاناة تلوح في الأفق بدرجات متفاوتة كذلك لدول عدة.
فمن إندونيسيا إلى بنغلاديش إلى نيجيريا والبرازيل واليابان والمكسيك، حتى دول الاتحاد الأوروبي، جميعها مضار من خطر القمح المتوقف تصديره واستيراده ولم تكن الدول العربية في مأمن من هذا النقص أيضاً في نفس الوقت الذي تم الإعلان فيه بأن عام 2023 هو عام الدخن مما يفتح الأبواب مشرعة للسودان للريادة والسيادة ليست فقط داخلياً، بل عالمياً لما له من إمكانيات حالية لزيادة إنتاجيته من الدخن كأقرب بديل للقمح، ولكن مع العمل على زيادة إنتاجية القمح أيضاً لسد الفجوة العالمية.
إضافة إلى المشاعر الإنسانية والأحاسيس المرهفة والرغبة في تقاسم رغيف الخبز بين القادر وغير القادر، فإن تقاسم رغيف الخبز يكون أحياناً قامعاً لاحتمالات نشوب إرهاب، أو ترسيخاً لوجود سياسي وقوة اقتصادية وهيمنة جيوسياسية، أو درءاً لقوة أخرى لديها القدرة على اقتسام رغيف مشابه وإمدادات من القمح أو بديلة كالذرة والدخن ربما أوفر.
إن دور روسيا في معادلات دبلوماسية القمح ليس وليد حربها في أوكرانيا.. ففي 2017، نجحت روسيا في أن تترأس قائمة أكثر دول العالم تصديراً للقمح، متفوقة على كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا للمرة الأولى. وحين خرج الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليعلن أن “روسيا أصبحت رقم واحد” في مؤتمر صحافي، كان على الأرجح يعلن أن الطريق بات ممهداً أمام الطموح الروسي، لتلعب بلاده دوراً آخذاً في النمو كـ”قوة عظمى” عبر قنوات الدبلوماسية الغذائية. وفتحت روسيا أسواقاً شاسعة لنفسها في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية وفي القارتين الأوروبية والآسيوية. وهذا النظر الدبلوماسي الروسي جعل البعض يصف الحبوب الغذائية الروسية (نفط الكرملين الجديد)، لذلك تظهر على السطح الدبلوماسي في هذه الآونة عروض بعض الدول المنتجة للقمح، لمد يد العون إلى دول تأثرت سلباً جراء الحرب الحالية، وأغلبها عروض لا يمكن فهمها خارج ما يعرف بـ”نظام الغذاء العالمي” المرتبط ارتباطاً وثيقاً بخريطة المصالح والتوازنات وآليات الضغط من أجل الحصول على مكاسب أو تحقيق غنائم.
وتشير دراسة عنوانها “القمح والسياسة والقوة” (2017) أجرتها “الجامعة النرويجية لعلوم الحياة” إلى أن تجارة الحبوب العالمية عنصر مركزي في نظام الغذاء العالمي.
وعلى مدار عقود طويلة، ظلت الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وعدد من الدول الأوروبية مُسيطرة على تجارة الحبوب في العالم، إلى أن أطاحت روسيا هذه الهيمنة في السنوات الأخيرة. وتشير الدراسة إلى أن صادرات فائضات القمح كانت، خلال الحرب الباردة والسنوات التي تلتها، جزءاً مهماً، ليس فقط من تجارة أميركا، بل ومن سياستها الخارجية وبرامج المساعدات التي تقدمها لدول بعينها.
السودان ودبلوماسية الغذاء
تُعتبر الموارد والثروات الموجودة في جمهورية السودان فرصة سانحة للاستثمارات العالمية وتحديداً العربية لتحقيق الأمن الغذائي، تعتبر زيادة استثمارات الدول في جمهورية السودان وتوسعها في الوقت الحالي وخاصة في مجالات الأمن الغذائي ضرورةً لتحقيق أهداف الأمن الغذائي للإقليم في هذا المجال، يُساعد الاستثمار في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية على الصعيد الحكومي وعلى مستوى القطاع الخاص على رفع معدلات الاكتفاء الذاتي في مجال الأمن الغذائي، تساعد المشاريع الاستثمارية الدولية في السودان في تحقيق نسبة كبيرة من الاحتياطي للأمن الغذائي الإقليمي. تعد مشكلة البيروقراطية وتعقيدات الإجراءات الإدارية التي تواجه المستثمرين من معوقات الاستثمار العالمي السودان وخاصة مشاكل تَمَلُّك الأراضي وإجراءات تسجيلها، وعدم توافر البِنَى التحتية (من الطرق والجسور وغيرها) تعد من أكبر المعوقات التي تواجه الاستثمارات العالمية في السودان.
تؤدي زيادة الاستثمارات المستقبلية العالمية والعربية تحديداً في السودان إلى تحقيق الأمن الغذائي في الإقليم، يعتبر توجيه الاستثمار العربي في السودان مناسباً لتحقيق الأمن الغذائي العربي تحديداً، وذلك بعد الاستقرار الذي سيشهده السودان في الفترة القادمة ورفع الحصار والعقوبات الاقتصادية عنه.
يجب استغلال الفرص المتاحة في ظل الحرب الروسية _ الأوكرانية، بأن يتم المشاورة والتواصل مع الدول المستوردة وبالأخص العربية والأفريقية منها لتراجع تحالفاتها الخارجية وسياساتها الداخلية؛ للتعاون مع السودان بما يزخر من موارد طبيعية وبشرية وموقعه الجيوسياسي لتقوية البنى التحتية لديه، وبناء تحالفات اقتصادية جديدة لتأمين سلاسل التوريد لها، والتضامن الدبلوماسي، وتبادل التقنية والخبرات، فضلاً عن تعزيز التعاون الزراعي البيني، وتوظيف الأراضي الزراعية غير المستغلة بتوجيه الاستثمارات إليها؛ لزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، كالقمح والذرة والأرز والدخن؛ لتنويع سلة الغذاء، كما يتطلَّب تحقيق الأمن الغذائي إقامة تكتلات اقتصادية لتقوية الموقف التفاوضي مع الدول والتكتلات الاقتصادية الأخرى، وتعزيز ثقافة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسية؛ وذلك من خلال تنفيذ مشروعات زراعية عربية مشتركة لإنتاج السلع الغذائية الاستراتيجية، وإقامة مخزون استراتيجي من السلع الغذائية الأساسية، ووضع نظام لتنفيذه وإدارته، وتنفيذ برامج طويلة الأمد لتحسين إنتاجية العمل لدى صغار المزارعين، والاهتمام بالتقدم العلمي التقني والبحث..
مبادرة الأمن الغذائي
كل المعطيات تشير لأهمية القيام بمبادرة تعزيز دور السودان في تعزيز القدرة على الصمود في مجالي الغذاء والزراعة في الدول العربية والأفريقية وتسريع وتيرة الانتقال إلى النُظم الغذائية المستدامة وذات القدرة على الصمود، والعمل على تعزيز”السياده الغذائية”، وذلك بالتنسيق مع المؤسسات والمنظمات الدولية ومجلس التعاون الخليجي تحديداً.
وتقوم هذه المبادرة على الركائز التالية:
ركيزة تجارية ترمي إلى التخفيف من حدة الاضطرابات التي تواجهها الأسواق الزراعية، وضمان الشفافية التامة في التدفقات والمخزون الزراعي، ومكافحة الحواجز التجارية.
ركيزة تضامنية ترمي إلى دعم القدرات الزراعية في السودان، لضمان حصول البلدان الأقل نمواً، ثم دول الإقليم على السلع الزراعية بأسعار معقولة، والاستعداد للتخفيف من حدة آثار الحرب الروسية الأوكرانية في مستوى الإنتاج الزراعي، إن التعاون التضامني الوثيق بين القطاعين الخاص والعام على جميع الجبهات ضروري من أجل ضمان التصدّي للأزمة الغذائية على نحو فاعل.. ركيزة إنتاجية ترمي إلى تعزيز القدرات الزراعية على نحو مستدام في السودان بمشاريع عملية على الأجل القصير والمتوسط والطويل سيستدعي تنفيذها إشراك جميع الجهات الفاعلة الملتزمة في القطاعين العام والخاص (ائتلاف القطاع الخاص من أجل الأمن الغذائي)، وذلك من خلال مبادرة تعزيز القدرة على الصمود في مجالي الغذاء والزراعة وبدعم من المنظمات الدولية الناشطة في مجال الأمن الغذائي والتغذية، وضرورة التركيز والتنسيق وتبادل الأفكار لتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية ومعالجة التعقيدات التي تواجه علاقات السودان الاقتصادية الخارجية وتفعيل وتنشيط الاتفاقيات الاقتصادية ومجالس الأعمال المشتركة مع الدول المتوجهين إليها السفراء الجدد لخلق شراكات اقتصادية جديدة وتحويل انعكاس تطورات الأزمة العالمية الحالية على الأمن الغذائي وارتفاع أسعار الغذاء إلى فرصة إيجابية للسودان باستقطاب شركاء ومستثمرين من الخارج لتحقيق الأمن الغذائي.. الاكتفاء الذاتي من الغذاء ضمان للاستقلالية والسيادة الوطنية الغذائية والتصدير يعني الهيمنة لأن الاستيراد كفيل بالتحول إلى ريشة في مهب السياسة.
إنها فرصة لن تتكرر في المستقبل القريب فإما عملنا على الاستفادة القصوى منها لضمان السيادة الوطنية والهيمنة والا أضعناها واخترنا أن نظل قابعين في قاع الاحتياج وانتظار الغير، هو خيار وعلى المسؤولين أن يحسنوا الاختيار.
الخرطوم.. فبراير 2023م