المرحلة الأولى من الحوار السياسي انتهت بتوقيع الاتفاق الإطاري. الجيش أعلن خروجه من المشهد السياسي مبكراً بإرادته قبل توقيعه على الاتفاق الإطاري وليس بضغوط خارجية أو بإرادة قحت كما تدعي. الاتفاق الإطاري لم يعالج مشكلة السودان الحقيقية وهي كيف يحكم؟!! الاتفاق الإطاري ركز على من يحكم السودان لأنه صمم خصيصاً بواسطة الآلية الرباعية لتسليم السلطة إلى قحت. بهذا النهج أربك الاتفاق الإطاري العملية السياسية وحولها إلى صراع إقليمي ودولي حيث أصبح السودان مسرحاً للتدخلات الخارجية. الاتفاق الإطاري تضمن قضايا جوهرية عالقة تمثل قنابل موقوتة تقود إلى نسفه من داخله. هذه القضايا لا يمكن معالجتها بورش عمل هزيلة سئية الإخراج ولكن يتم علاجها بحكومة مدينة منتخبة وبرلمان منتخب. فالحوار يتم حالياً حول هذه القضايا العالقة في المرحلة الثانية عبر ورش عمل فطيرة يتحكم فيها ويسيطر عليها خبراء أجانب وقحت تخاطب نفسها في هذه الورش التي قاطعتها قوى سياسية واجتماعية وعسكرية كبيرة وهذا يعني أن هذه الورش لا تمثل مخرجاً من الأزمة السياسية الحالية، بل تعقدها. تتسابق خطى قحت والقوى الخارجية الداعمة لها ويبذل قصارى جهدها لتشكيل الحكومة وكلفتت الاتفاق الإطاري بأي صورة وجعله أمراً واقعاً قبل أن تتسع دائرة رفضه ومقاومته. الوثيقة الدستورية الموقعة في 17 أغسطس 2019م سلمت السلطة لقحت لمدة ثلاث سنوات ماذا حققت قحت فيها من نجاح؟!! كل ما حققته قحت هو وضع السودان تحت الوصايا الدولية وتعيين فولكر كحاكم عام جديد للسودان ويؤكد ذلك أن كبار المسؤولين بالدولة قد أصبحوا يتعاملون معه بهذه الصفة حيث قام د. الهادي إدريس عضو مجلس السيادة بمقابلته وتنويره بنتائج زيارته الأخيرة إلى جوبا. مسؤول سيادي آخر صرح علانية بأنهم قد وقعوا على الإطاري وكراعهم فوق رقبتهم!! أين هي السيادة الوطنية؟!! وهل هنالك مهازل سياسية أكثر من ذلك؟!! السرية والغموض والضبابية التي لازمت الإعلان الدستوري الذي جاءت به الرباعية واتفاقها الإطاري تم تطبيقها حرفياً في ورش العمل التي لم يتم نقل ما يدور فيها على الهواء مباشرة للشعب السوداني إن كان فيها خيراً!! مخرجات هذه الورش هي قرارات معلبة جاء بها الخبراء ليتم إخراجها عبر هذه الورش العبثية لتقوم بتنفيذها حكومة قحت العميلة!! جاء البيان الختامي للورشة الأولى معمماً بدون أي تفاصيل ولم يفصح عن التوصيات التي خرجت بها هذه الورشة. الاتفاق الإطاري كشف للشعب السوداني حجم التآمر الدولي الذي تتعرض له البلاد، المحامي نبيل أديب وصف توصيات هذه الورشة بأنها تمثل انتهاكاً للقضاء وشاذة ومخالفة للدستور وهذه شهادة صريحة وقوية من أهلها!! لجنة إزالة التمكين السابقة عاثت فساداً في النظام السابق حيث قامت بحله بقرار سياسي وصادرت كل ممتلكاته ودوره وشركاته ووضعت رموزه وقياداته في السجون ومنهم من توفي داخل هذه السجون، هذه اللجنة فككت المؤسسات الحزبية للنظام السابق صامولة صامولة كما كان يصدح بذلك وجدي صالح.
قحت تسعى من خلال الاتفاق الإطاري إلى تفكيك مؤسسات الدولة التي تحمي الدولة وهذا مشروع خارجي!! قحت هنا تستهدف الإسلاميين في الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والنيابة العامة والخدمة الوطنية وكل هذه المؤسسات شاركت في تأسيسها كل الحكومات الوطنية السابقة وقحت تسعى اليوم إلى تفكيكها تحت دعاوى سياسية كاذبة باعتبارها مؤسسات مؤدلجة!! إن كانت هذه المؤسسات تابعة فعلاً للنظام السابق لما سقط هذا النظام من داخله لأن مظاهرات قحت والحصار الخارجي لم يسقطه، قوات الدعم السريع هي المؤسسة الوحيدة التي تم إنشاؤها في عهد الإنقاذ ولكنها لعبت دوراً كبيراً في إسقاطه وهذا مؤشر قوي على أن مؤسسات الدولة لا تحمي الأنظمة السياسية ولكنها تحمي الدولة، الإعلان الدستوري اللقيط الذي جاءت به الرباعية مثل انقلاباً عسكرياً حقيقياً على الوثيقة الدستورية السابقة التي اعتمدت كمرجعية قانونية لإدارة الفترة الانتقالية وهي مؤقتة وعمرها قصير ولا تحتاج لدستور أو وثيقة فالمراسيم الدستورية كافية لإدارتها، إجراءات 25 أكتوبر تصحيحية نادى بها الشارع وهي تمثل فضاً للشراكة لأن الشريك المدني فشل في إدارة الفترة الانتقالية كما صرحت أمريكا بذلك، هذه الإجراءات لم توقف المساعدات الخارجية المشروطة سياسياً وهي عبارة عن وعود سياسية كاذبة وجزرة غير صادقة كما كشفت التجارب السابقة، المساعدات الحقيقية هي التي قدمها الأشقاء في السعودية والإمارات والتي تبلغ قيمتها (3) مليار دولار دفع منها (500) مليون دولار لبنك السودان ولم يتم دفع الباقي نتيجة لهجوم قحت على الدولتين والإساءة لهما، ما هي نتائج المشروعات الاستثمارية التي قدمتها قحت لمؤتمر برلين ومؤتمر باريس وما هو المشروع الذي رأى النور منها؟!! أما تسديد الديون فقد تم بدين جديد وليس بإعفاء كامل لها. أما رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب فمهندسه هو البرهان الذي عقد اتفاقية صلح مع نتنياهو وليس حمدوك لأن أمريكا عندما ذهب لها حمدوك في أول زيارة خارجية له وطلب منها رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ردت عليه رداً قاسياً وصادماً بأنها لن ترفع اسم السودان من قائمة الإرهاب لأن حكومته ضعيفة وغير قادرة على فرض سيطرتها على كل أجزاء الدولة، الاتفاق الإطاري يدور حول الصراع على السلطة ولا علاقة له بتحقيق مصالح وطنية وهو يسعى لتحقيق مصالح لقوى خارجية عن طريق قوى عميلة داخلية تابعة له!! هكذا أربك الاتفاق الإطاري العملية السياسية وجعل السودان مسرحاً للتدخلات الخارجية، ما يجري حالياً هو عبارة عن صراع إرادات بين إرادة وطنية داخلية وإرادة خارجية تسعى لفرض سيطرتها على الشعب السوداني عبر قحت. هذا الموقف قاد لتعبئة سياسية مناهضة للتدخل الخارجي في الشأن السوداني. بلغت التعبئة السياسية في شرق السودان المناداة بحق تقرير المصير وفي المنطقتين بالحكم الذاتي وفي دارفور بالحكم الإقليمي الذي قاد إلى انفصال الجنوب وفي الشمال والوسط بحمل السلاح لنيل المطالب السياسية. هذا موقف خطير يهدد الأمن القومي السوداني ما لم يتم تداركه قبل فوات الأوان وتلك هي مسؤولية البرهان لأنه يمثل رأس الدولة حالياً. إغلاق الاتفاق أمام الراغبين في الانضمام إليه يمثل إقصاءً لهم يقابله حصار الخرطوم الذي أعلنته قوى الهامش، الإطاري نادى بمراجعة اتفاقية جوبا تحت دعاوى أنها لم تتنزل لأرض الواقع ولم تحقق السلام وتلك هي ادعاءات سياسية كاذبة حيث أن الاتفاقية قد حققت السلام، كما تم تنفيذ جزء كبير ومقدر منها بدون دعم خارجي حيث نال إقليم دارفور الحكم الإقليمي وتم تعيين حاكم الإقليم ونائبه، كما تم تعيين الولاة وحكوماتهم ومارسوا سلطاتهم واستلموا ميزانياتهم السنوية. أما في مجال الترتيبات الأمنية فقد تم تخريج عدد (2219) مجند. الآن يوجد تحت التدريب عدد (1700) مجند كما تم تجميع عدد (2500) مجند بمناطق التجميع توطئة لنقلهم لمراكز التدريب وفي منطقة النيل الأزرق أشرف مالك عقار شخصياً على عملية الترتيبات الأمنية وفي جنوب كردفان اتبعت نفس الخطوات. أما عودة النازحين من المعسكرات فهذه تعرقلها القوى الخارجية التي حولت معسكرات النازحين الى سجون كبيرة لهم لا يمكنهم الخروج منها حتى للاحتطاب حتى تجد فرصتها في نهب ثروات البلاد من يورانيوم وذهب ومعادن أخرى. الاتفاق الإطاري وضع قحت في مواجهة الشارع والمجتمع الإقليمي والدولي برفضها لتوسيع دائرة المشاركة في العملية السياسية التي ينادي بها البرهان والمجتمع الدولي وترفضها قحت. الاتفاق الإطاري شرك نصبته الرباعية للطرفين والمؤشر القوي على ذلك أنه فرق بين المدنيين وشتت صفوفهم بدلاً من توحيدهم كما فرق بين العسكريين وهذا ما تسعى وترغب فيه القوى الخارجية حتى تجد فرصتها في فرض سيطرتها على البلاد بكل سهولة ويسر. الدولة الآن تعيش مرحلة غياب العقل السياسي الذي يديرها ويوجهها للحفاظ على كيانها مما أتاح فرصة كبيرة للسفراء الأجانب أن يمرروا مخططات دولهم في السودان بكل سهولة ويسر. مؤسسات الدولة السيادية التي يستهدفها الاتفاق الإطاري بالتفكيك عليها أن تستلهم مضمون مقولة الزعيم الراحل صدام حسين الذي قال: (قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق)، مقاومة هذا الاستهداف لا تحتاج لعناء كبير وجهد عظيم وقومة نفس من هذه المؤسسات. المطلوب من المؤسسات العسكرية أن لا تأتمر بأوامر حكومة مدنية غير منتخبة تأتيها محمولة على ظهر دبابة أمريكية وأن لا توفر لها الحماية، أما المؤسسات المدنية فعليها أن تستخدم نفس السلاح الذي تستخدمه قحت وهو الإضراب السياسي والعصيان المدني. اتخاذ هذه الإجراءات كفيل بتحرير شهادة الوفاة مبكراً لحكومة الأنابيب قبل تأديتها للقسم. سحب البرهان لوساطته غير كافٍ ينبغي عليه أن يتبعه ببيان يوضح فيه للشعب السوداني والمجتمع الإقليمي والدولي من الذي يعرقل العملية السياسية ويرفض توسيع دائرة المشاركة فيها ويعرقل التحول الديمقراطي حتى يفضح أمريكا التي أعلنت صراحة بأنها ستوقع أقسى العقوبات على الطرف الذي يعرقل العملية السياسية. إذا لم توقع أمريكا عقوبتها التي هددت بها على عملائها فإنها ستفقد مصداقيتها السياسية وتصبح غير مؤهلة كدولة عظمى مسؤولة عن حفظ الأمن والسلم الدوليين!! البشير برأ نفسه بحيثيات قانونية وواقعية ومنطقية اعتمد فيها على المادة (١٥) من دستور ١٩٦٥م المعدل ويثبت تلك الحيثيات ويؤكدها شهادة المقاتلين في مناطق العمليات خلال تلك المرحلة، كما يثبتها أيضاً دعم القوات المسلحة والشارع السوداني للتغيير الذي تم. هل تستطيع قحت أن تأتي بمثل تلك الحيثيات التاريخية حتى تبرئ نفسها من سرقتها لثورة الشباب التي انضمت لها بعد (١١) يوماً من نجاحها كما شككت في نجاح تلك الثورة عندما وصفها زعيم حزب الأمة القومي بأنها عبارة عن (بوخة مرقة)!! خلاصة القول: الاتفاق الإطاري أربك العملية السياسية وأعاد إنتاج الأزمة، لا يمكن للإرادة السودانية الوطنية أن تخضع للإرادة الأجنبية مهما كان الثمن. قحت أصبحت تتاجر بقضية فض الاعتصام من أجل الحصول على السلطة حيث سكتت عن هذه القضية من أجل شراكتها الأولى والآن تاجرت بهذه القضية بالحصانة التي تضمنها الاتفاق الإطاري.
ختاماً: الاتفاق الإطاري ليس مخرجاً للأزمة السياسية والمخرج الوحيد تمثله المبادرة المصرية التي تجمع الكل في طاولة واحدة للخروج بتسوية سياسية شاملة لا تقصي أحداً. وبالله التوفيق.