النيل الأزرق.. مرامي الصلح المجتمعي

*

النذير إبراهيم العاقب

*

في الخامس عشر من يناير المنصرم وبحضور رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وبقاعة المجلس التشريعي بالدمازين، تم توقيع وثيقة الصلح بين مكونات النيل الأزرق المقاتلة في ما بينها منذ مطلع يوليو العام الماضي، ذاك الاقتتال القبلي العنيف الذي راح ضحيته أكثر من 3000 من قتيل وجريح، وتم التوقيع لجهة إيقاف العنف المتجدد، وإيجاد سبل كفيلة لتوقيع الصلح المستدام وإعادة الحياة إلى نصابها القديم في الإقليم الذي كان يمثل سوداناً مصغراً من حيث التعايش السلمي والتصاهر المجتمعي منقطع النظير.

والأمر كذلك، ورغم حسن النية الذي أفضى إلى توقيع تلك الوثيقة الرامية لتحقيق السلم والتوافق المجتمعي بالنيل الأزرق، ورغم القبول الكبير الذي وجدته من قبل جل المكونات السكانية بالإقليم والساعية للعودة به إلى سابق عهده، تآزراً وتعاوناً مثمراً يفضي إلى تحقيق أكبر قدر من المصالحات القبلية، بيد أن هناك بعض النشاز الذين رفضوا هذه الوثيقة، بل وتداعى البعض منهم لأجل نقضها ومعارضتها، والتمسك برأيهم الداعي لإخلاء كل الإقليم من وجود إحدى القبائل التي شاركت في تأجيج الصراع القبلي ذاك، ولعل هؤلاء لا يدركون أهمية الصلح في المجتمعات، والذي يُعدّ تحقيقه بين أطراف متخاصمة في المجتمع أمراً ليس سهلاً إطلاقاً، فقد يستغرق وقتاً طويلاً كما يتطلّب اتخاذ قرارات صعبة للوصول إلى حلّ يرضي جميع الأطراف، وتختلف الجهود المبذولة للمصالحة تبعاً للظروف والمدة الزمنية التي تحددها طبيعة الخلاف والمجتمع، ومهما بلغت صعوبة هذه الظروف لا يجب أن يقف ذلك عائقاً أمام سعي الأطراف المعنيّة في تحقيق الصلح لما له من أهمية كبيرة تعود على الفرد والمجتمع، والالتزام بما ورد في الوثائق الموقع عليها من قبل كافة الأطراف المعنية.

ولعلم أولئك الرافضين للصلح، نبين أن تحقيقه يمثل أهميّة قصوى، سواء على الجماعي والروحي، ومن أبرز النقاط التي توضّح أهميّة الصلح في المجتمع، تحقيق الوحدة والتماسك بين أفراد المجتمع، وإحداث تغيير في ذات المجتمع على المستوى السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والمساهمة في بناء علاقات إيجابية بين أفراده، وإعادة صياغة هوياتهم من خلال تغيير ثقافاتهم ومواقفهم التي تسببت بالأذى للآخرين، وإعطاء الأفراد القدرة على الاعتراف المتبادل بمعاناة الماضي والتعامل معها بإيجابية، وبناء جسر بين أطراف النزاع من خلال مساعدة الطرف المتضرر في التغلب على كل المشاعر السلبية التي مر بها من حزن وألم وغضب.

وعلى الجانب الآخر المساهمة في إضفاء الطابع الإنساني للطرف المتسبب بالضرر، حيث أنّ عملية الصلح تعتمد بشكل أساسي في القضاء على تجرد البعض من إنسانيتهم وعدم مبالاتهم بآلام الآخرين، وتعزيز بناء المجتمع من خلال تقبّل الأطراف المتخاصمين للعيش معاً مرةً أخرى، والمساهمة في بناء مجتمع أفضل تسوده العلاقات الهادفة التي تقوم على الصدق والاحترام، والتقليل من الرغبة في الانتقام من الشخص الذي تسبب بالأذى أو الضرر وذلك من خلال فرض العقوبة اللازمة عليه، ومعاقبة الجاني بالعقوبة المناسبة في بعض الحالات.

ويكمن دور الصلح في هذه الحالة بمساعدة المجتمع على تقبّل الجاني بعد إنهاء مدة العقوبة حتّى لا يكون هناك ضحايا آخرون، وتعزيز الهوية الوطنية للفرد وانتمائه للمجتمع مما يساهم في إلغاء أي تمييز عنصري بين الناس، حيث يقوم الصلح على اعتراف الطرف الذي تسبب بالأذى بخطئه وطلبه العفو من الطرف المتضرر والذي يقوم بدوره بمسامحته، مما يساعد في ترميم العلاقات المكسورة بينهما بتغيير تحيز وتصور كل منها نحو الآخر، وإعادة التواصل مع الآخرين وتجديد العلاقات مع الأشخاص الذين تسببوا بالأذى لغيرهم، والتركيز على جوهر العلاقات الإنسانية وليس الأسباب التي أدت إلى النزاع فقط مما ينتج عنه تحول جذري في العلاقات الشخصية بين المتنازعين، وإصلاح المجتمعات التي تعاني من الانقسام بين شعوبها ومكوناتها لبناء السلام والاستقرار المستدام في هذه المجتمعات، وتعزيز الأسس والمبادئ التي يقوم عليها نجاح المجتمع مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحقيق العدالة بين الناس، والتطلع إلى تحقيق أهدف المجتمع المنشودة في المستقبل من خلال بناء سيادة القانون، والحد من الظلم والعنف وتوفير مساحة للشعور بالأمان بين الناس والتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم، على أن يسبق ذلك حملة منظمة من قبل الجهات الحكومية والأمنية وذات المصلحة، بقيادة حملة للتعريف بالصلح وأنّه يعني عملية فض النزاعات والخلافات بين المتخاصمين من خلال الحوار والاعتراف بالذنب، أو اللجوء إلى القضاء لرد الحقوق إلى أصحابها وبناء علاقات قائمة على الثقة والتسامح، والتعاون بين الناس للعيش بسلام واستقرار.

بجانب التعريف بأنواع الصلح في المجتمع، والتي يمكن تلخيصها في أن المصالحة التامّة أفضل أنواع المصالحات، بحيث تحلّ الخلافات القائمة بين الأطراف تماماً وتنهي مسبّباتها، وقد تتحوّل العلاقة بين الأطراف المتخاصمة إلى علاقة مودّة وصداقة، بجانب تغيير التوقعات والذي يعتمد على تغيير أطراف الصراع أو الخلاف توقّعاتهم ومتطلّباتهم من الطرف الآخر، وتقبّل الاختلاف وانفتاح العلاقة بينهما سواء أجريت التغييرات المأمولة أم لا، فضلاً عن الاتّفاق على عدم الاختلاف مستقبلاً، والذي يمكن الوصول إليه متى ما اقتنع أطراف الخلاف أنّه لا داعي لإقناع الآخر بأنّه هو على حقّ، وتقبّل اختلاف الرأي، ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة بعيدة عن سبب الخلاف يمكن الاعتماد عليها لإعادة بناء العلاقة وتجاوز الخلاف.

زد على ما سبق، أهمية توافر الإرادة والاقتناع بالقرار الداخلي على المصالحة والمسامحة والذي يتحقق عندما تكون المصالحة المباشرة مع طرف الخلاف الآخر مستحيلة، كأن يكون ميّتاً أو رافضاً تماماً للمصالحة مع فشل جميع جهود الصلح، ولا يمكن يمكن استرجاع العلاقة أبداً.

تلك هي الأسس والمبادئ التي يجب أن يستند عليها لتفعيل أطر وأساسيات الصلح المجتمعي في النيل الأزرق.