د. وائل أحمد خليل الكردي
(كان فصل الصيف رائعاً..كان موسم الولادة من جديد والبراءة.. كان معجزة.. شعر بذلك خمسة عشر مريضاً، ونحن المشرفون أيضاً.. لكن الآن علينا التكيف مع حقائق المعجزات.. يمكننا إلقاء اللوم على العلم والقول أن الدواء لم يكن فعالاً أو أن الداء عاد من جديد أو أن المرضى عجزوا عن التأقلم مع خسارة العقود المنصرمة من حياتهم، في الحقيقة لا نعلم ما الخطأ الذي حدث بقدر ما نجهل ما كان الصحيح.. ما نعرفه هو أنه مع انغلاق النافذة الكيمياوية حدثت صحوة جديدة.. إن روح الإنسان أقوى من أي دواء، وهذا ما يجب تغذيتهمن خلال العمل واللعب والصداقة والعائلة.. هذه هي الأمور الأهم.. لقد نسينا أمرها.. أبسط الأمور)..
تلك هي الكلمات التي ختم بها(روبين وليامز) R. Williams فيلم (الصحوة) Awakening والذي أدى فيه دور البطولة تحت شخصية (دكتور ساير) Dr. Sayer وشاركه في البطولة الرائع بحق (روبيرت دو نيرو) R. Deniro تحت شخصية (ليونارد)Leonard المريض النموذجي في تجربة العلاج.. وذلك حينما عين (د. ساير) طبيباً معالجاً في مستشفى الأمراض المزمنة في مقاطعة (برونكس) ليجد عالماً فريداً من البشر الأحياء الغائبين عن فاعلية الحياة لعقود طويلة من عمرهم نتيجة اصابتهم بمرض التصلب اللويحي ومتلازمة (توريت) ومرض (باركسون)، فظلوا طول فترتهم وراء جدران المستشفى لا يخرجون الى العالم الخارجي، منهم من غاب عن معايشة الحياة لأربعين سنة ومنهم ثلاثين ومنهم دون ذلك أو أكثر.. تحرك الطبيب (ساير) بالدافع الشعوري الإنساني نحوهم بتعاطف عميق كان سبباً في أن كرس نهاره وليله من أجل اكتشاف علاج لهؤلاء يعيدهم به إلى الحياة الواعية الواقعية من جديد إذ كان هو الوحيد من بين الأطباء من آمن بأن ذلك ممكن، وقد فعل.. وربما ليته ما فعل..
نحن كثيراً ما نضع معياراً للحقيقة والوجود والسعادة وفقاً لزماننا القريب وما عليه مقتضى الأمور في يومنا الراهن والذي بلغناه بتتابع السنوات المتصلة حين ننمو وتنمو معنا الحياة، إلى أن تشكلت خبراتنا التي نعالج بها ظروف عصرنا لكي نضع عليها تلك المعايير.. وكذلك كل الأفكار الحالمة بالمدن الفاضلة أو (اليوتوبيا) كانت لأجل تحقيق السعادة للإنسان حاضراً ومستقبلاً بحسب هذه المعايير التي وضعناها من واقع عصرنا وطرق حياتنا.. هكذا فعل (أفلاطون) في جمهوريته، وفعل (توماس مور) في يوتوبيا، وما أشار إليه الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة، وغير ذلك من جهود وأفكار مختلفة.. ولكن كلها كانت تشترك في تصور ما ينبغي أن يكون ورسم المستقبل بناء على الحاضر، ولكن ماذا لو كانت هناك يوتوبيا أو مدن فاضلة شعوبها موجودة بيننا في زماننا وحاضرنا ولكنهم يعيشونها في زمانهم هم الخاص.. إذن، كان من الطبيعي أن يفكر الطبيب بمعايير يومه وخبرته السوية هو عندما قرر في شأن مراضاه أن الأصلح لهم هو إعادتهم مما هم فيه وتحريرهم من الأسر في الماضي ومن جدران المستشفى.. ولكن كانت الصدمة والدرس المستفاد في آن معاً عندما نجح الدواء وعاد الغائبون، ولكنهم عادوا بعقلياتهم ومشاعرهم القديمة وحدود خبراتهم التي توقفوا عندها يوم اصيبوا بالمرض وغادروا عليها منذ سنوات طوال، فمن هو بالسبعين عاد بروح وعقل وخبرة الشاب في العشرين حيث كان يومذاك.. هنا كان لابد أن ينشأ صراع نفسي كبير بين الماضي والحاضر الذي أتى فجأة في حياة هؤلاء، ثم ليتحول الصراع إلى نقمة وتمرد على الأطباء الذين وقع بظنهم أنهم يحولون بينهم وبين أن يمارسوا بحرية الحياة كما يعوها هم وليس كما يفرضها هذا الحاضر الغريب تماماً.. وكانت الأزمة لتتحول إلى كارثة حقيقية لولا أن أدركهم قدر الله بلطفه بأن الدواء لم يحسم المرض نهائياً وانما فقط كان ذا تأثير جزئي مؤقت، فكانت مجرد لحظات (صحوة) رجعوا بعدها تدريجياً إلى مرضهم بسلام ولتطمئن نفوسهم وتهدأ في عالمهم الخاص الذي ألفوه طويلاً.. فتلك هي مدينتهم الفاضلة التي لا مفر منها لكي يقضوا ما بقي لهم في العمر براحة بال وبغير هموم جسام، وكأن لسان حالهم يقول للطبيب عتاباً (لماذا اخرجتنا أول مرة؟ ولو كنا علمنا حال زمانكم ودنياكم لرفضنا دوائكم هذا قولاً واحداً) تماماً كما هو حال أهل الكهف في سورتهم بالقرآن الكريم عادوا إلى الموت بعد صحوهم في زمان غير زمانهم..
إن هذا الفيلم البديع هو قصة واقعة بالفعل في أخريات الستينات من القرن العشرين، وهو بهذا العرض الدرامي المتقن كان ينطلق من مقدمة منطقية أساسية هي (أن المدينة الفاضلة ليست دائما كما يرها الأسوياء، وأن حياة الحاضر ورؤية المستقبل تبعاُ لها ليست هي المعيار الأوحد للسعادة في هذه الحياة، فرب أقوام أخر لديهم حسابات مختلفة).. وهذه المقدمة المنطقية تضمنت ما يلي من قيم:
أولاً- أن هناك نوع من الصحة أهم بكثير للإنسان من صحة العقل والجسد، هي صحة التوافق الروحي مع الحياة ولو برغم المرض، فيجب أن لا نستسلم في حال لم يوجد الدواء فأرواحنا وعزائم النفس أقوى من أي دواء.. وفي حال تمكن المرض لا محالة فنعيش الحياة في داخله بأرواحنا القوية.. ولنا في (المعري) ضرب مثل حين داهمه كف البصر في ريعان الصغر.
وثانياً- هنالك حوار قصير دار بين أم المريض (ليونارد) والطبيب (ساير) عند اللقاء الأول.. وجدها تكلم ابنها كأنها تحاوره، فسألها(هل يتكلم معك يوماً؟) فأجابت (بالطبع لا.. ليس بالكلمات) فسألها (ماذا تعنين، هل يتكلم بطرق أخرى؟) فسألته عما إذا كان لديه أولاد فلما أجاب بالنفي قالت له (لو كان لديك لعلمت).. فلعل أكثر لغات التعبير عن الأحوال الإنسانية سطحية هي الكلمات، وأن هناك من اللغات ما هو أكثر عمقاً تُفهم ولا تُنطق تماماً كلغة الشعور والحدس الفطري بين الأم وابنها، والمغذى في هذا أننا يجب أن نتعلم استخدام مثل هذا اللغات فقد تكون فعاليتها في تحقيق الأثر أكبر مما نتصور.. وهذا ما يدعم بقوة المقدمة المنطقية للفيلم.