بدون زعل
عبد الحفيظ المريود
محيط الأنوار الذاخر
بعد أسبوعين من وفاة أصغر أبنائي، حسين، وعمره ثلاث سنوات، وقد كان ألطفهم، عام ٢٠١٢م. كنت قد قررت زيادة وردي في الصلاة على النبي، صلى الله عليه وآله، إلى خمسة آلاف، يومياً.. وهو ورد كسيح، كليل، يتوارى خجلاً أمام أوراد “الرجال”.. خاطر ملح بأن الصلاة على النبي ستثبت قلبك المضطرب، وتعينك على المصاب.. فمن يتحدث عن “الفقد” – اليتم، الترمل، فقد الأبناء، الأعمام، الوحدة، إزاءه؟ هل يجرؤ أحد على التطاول بالحديث عن “فقد”، وحياة النبي الأكرم ماثلة أمامه؟
المهم…
في الليلة الأولى، لزيادة وردي الكسيح الضئيل، خلدت إلى النوم.. بعد الواحدة صباحاً فرأيت:
أنا ورفيقي – الذي أعجز حتى اللحظة عن تذكر من كان – توضأنا، ويممنا لنصلي الفجر في المسجد النبوي.. الرخام عجيب، والأنوار باهرة.. وثمة عتبات ودرج يحرسه حرس يمنعون الناس من دخول باحة المسجد.. الناس كثر، ممنوعون.. بعضهم يترجى و”يحنس”، للسماح له.. المدخل وحيد.. حين اقتربنا، فتح لنا الناس الطريق.. الحراس فتحوا البوابة.. دخلنا، وصاحبي، باحة المسجد النبوي، نسير على الرخام النوري اللامع المضيء.. رأيته – صلى الله عليه وآله وسلم – بأنواره الربانية يمشي، ليدخل المسجد.. دخلنا خلفه، أقيمت الصلاة، وصلينا وراءه..
بعد الصلاة، خرجنا وكان ممسكاً بيدي، يساررني في أمور كثيرة..
صحوت.. كان المسجد القريب منا ينادي “الصلاة خير من النوم”.. كنت ممتلئاً نوراً، سكينة، وطرباً.. توضأت وذهبت إلى المسجد.. يؤمنا عمك “فقيري”، في مربع ٢ بالحاج يوسف، شارع واحد.. شيخ دنقلاوي، سبعيني.. أحبه وأحب تلاوته، يقرأ برواية ورش..
شايف كيف؟
في طربي، ذاك، ضحى، وقبل الفطور، حكيت الرؤيا لأبي – عليه شآبيب الرحمة – فأطرق زمناً.. قال لي: “زمان كنت وكت أنوم، طوالي بلقى نفسي في قيف المالح (يقصد البحر الأحمر).. بنزل بهدومي، أعوم شوية كدا، بقطع.. بخش المدينة برجليني.. وبدخل المسجد النبوي.. بصلي مع سيدنا النبي، وبسمع خطب ودروس.. حكيت للفكي أحمد عيسى مريود (شقيقه الأكبر)، فطلب مني ألا أحكي، مرة تانية الكلام دا.. ولا ليهو زاتو”..
الفكي أحمد عيسى مريود، عمي الأكبر، يرحمه الله، شيخ تجانية قاطع.. سألت أبي “طيب.. هسي إنت ما حكيت لي.. ما التزمت بكلام أخوك ليه؟”.. أجابني: “ما عارف.. يمكن عشان إنت حكيت لي”.. ثم حكى لي حكايات كثيرة..
شايف؟
بعد سنوات اغتربت في السعودية لثلاثة أشهر.. ونحن ذاهبون إلى الزيارة من جدة إلى المدينة.. كنت مشغولاً بالرخام والأنوار.. هل سأجدها، كما هي في الرؤيا؟
يا الله.. يا الله.. يا الله..
المهم..
يقابل الناس المشاهير.. النجوم.. في كل المجالات يلتقطون صوراً، “يقشرون” بهم.. هل ثمة “قشرة” أكثر وأشرف من هذه؟
العارفون والراسخون يقولون لك “لا تحكِ”.. تلك أسرار.. قد تسلب منك.. لكن حين تسوح مع الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، الغزالي في “مجرباته”، تجالس عتاة المكاشفية، السمانية، التجانية، ستجد أن هناك حكايات كثيرة حكيت، وتحكى..
شايف كيف؟
إذا كان (التحدث بنعمة الله) أمراً ربانياً.. وإذا كانت الرؤيا شافية، باهرة، مثلجة للصدر، جالبة للتأمل ومقربة إلى الأنوار القدسية، فلماذا تسكت عنها؟
أكثر من يطربني في المديح الشيخ حياتي في “طه المجيب”..
جزماً حتم.. يا مادحو لا تهتم.. أشرب وتم
يا إلهي…
وأغلب وصف الشيخ حياتي للمدينة، كان قبل أن يزورها، فتأمل أيدك الله وسدد خطاك!!
صَلِّ اللّـهُمَّ عَلَى الدَّليلِ اِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الْاَلْيَلِ، وَالْماسِكِ مِنْ أسْبَابِكَ بِحَبْلِ الشَّرَفِ الْأَطْوَلِ، وَالنّاصِعِ الْحَسَبِ في ذِرْوَةِ الْكاهِلِ الْأَعْبَلِ، وَالثّابِتِ الْقَدَمِ عَلى زَحاليفِها فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَعَلى آلِهِ الْأَخْيارِ الْمُصْطَفِيْنَ الْأَبْرارِ،
أو كما قال أمير المؤمنين.