“أزمة الشرعية والصراع بين الثورة والنظام السياسي”

عبد القادر محمود صالح
إن ثورة ديسمبر العظيمة كانت حاجة ملحة لجموع الشعب السوداني للخلاص من أطول حكم عسكري شمولي لبس عباءة الإسلام السياسي وجثم على ظهر الشعب زهاء الثلاثين عاماً، ينهب ثرواته ويهجر شبابه ويعبث بأمنه القومي ويمارس أبشع أشكال انتهاك حقوق الإنسان في مصادرة الحقوق السياسية والمدنية للأفراد والجماعات والأحزاب السياسية.
لقد شهدت فترة الحكم العسكري للإسلام السياسي في السودان، اشتداد أوار الحرب الأهلية في جنوب السودان الأمر الذي أدى إلى تهديد الدولة لأمنها القومي من ناحية تكالب جميع الدول في الإقليم الأفريقي والنظام الدولي على السودان وبقائه كدولة ذات سيادة على المسرح الإقليمي والدولي.
جراء ذلك اختار جنوب السودان تقرير مصيره وتشكيل دولة جديدة بعد انفصاله من السودان.
برز على إثر ذلك امتعاض الشارع السوداني لسياسات الحكم العسكري للإسلاميين وبدأت القوى السياسية في تنظيم صفوفها لمواجهة تحديات الوضع الراهن من خلال تعبئة الجماهير وتنظيم جهود النضال السلمي للانقضاض على السلطة القائمة، ونجحت جهود القوى السياسية في تشكيل تحالف عريض نُعت بالأكبر في تاريخ السودان، هذا التحالف عرف فيما بعد بميثاق قوى الحرية والتغيير وضم فيما ضم الكثير من المكونات السياسية والمدنية وحركات ثورية مسلحة ونقابات وتجمعات مهنية مختلفة، وكان على رأس هذا الحراك المدني، تجمع المهنيين السودانيين الذي تصدر المشهد النضالي وقاد الحراك الثوري في غداة انطلاقه في ٢٤ ديسمبر ٢٠١٨.
تصاعد الحراك الثوري بجماهيره الواسعة حتى وصوله إلى إسقاط السلطة القائمة في ٦ أبريل ٢٠١٩ بعد اعتصام الجماهير الثورية في محيط القيادة العامة للقوات المسلحة واضطرار اللجنة الأمنية لنظام البشير على الانحياز للثورة واتخاذ مواقف ضد البشير وزمرته في ١١ أبريل ٢٠١٩.
والسؤال هنا: هل كان انحياز القوات المسلحة للثورة جدياً وينم عن إرادة حقيقية لمؤسسة القوات المسلحة في التغيير وبناء دولة مدنية قوامها الحرية والسلام والعدالة، أم إن الانحياز كان مجرد خدعة هدفها تهدئة الانفعال الثوري ومن ثم العودة إلى ما قبل السادس من أبريل باعتبار أن اللجنة الأمنية لنظام البشير هي صمام أمان الطبقة الاجتماعية المؤيدة للسلطة البائدة؟
وللإجابة عن هذا السؤال حري بنا إيراد تحليل البروفيسور حسين علوان أستاذ النظم السياسية المقارنة، حيث يقول: “تبنى الفيلسوف جون لوك في مقالته الحقوق المدنية، القول بمشروعية الثورة، حيث اعتبر السلطة وديعة يؤتمن عليها الحاكم لمصلحة الشعب، فإن نكص الحاكم عن تلك الأمانة، فللشعب الحق في الثورة على السلطة القائمة، لأن السلطة على حسب تعبيره ترتكز على الشعب.”
من ذلك يفهم أن الثورة ما زالت في عنفوانها ضد السلطة العسكرية القائمة التي جاءت بشكل انقلابي ظناً منها أن الانفعال الثوري هدأ إلى حدوده التي تسمح بالعودة إلى أوضاع ما قبل السادس من أبريل، وهذه الأوضاع لما لها من قوى اجتماعية ذات مصالح، تعمل على شل قدرة الثورة الاستيلاء على السلطة، ومن ثم تأسيس نظام سياسي جديد يقوم على مصالح الشعب وقواه الثورية الحية، لذلك نجد أن الانقلاب العسكري أريد له تمهيد الطريق لعودة النظام البائد رغماً عن الروح الثورية المتوثبة للتغيير الجذري والمتغيرات الإقليمية والدولية التي لا تخفي عدم رغبتها في انقلاب البرهان وما يمثله لمصالح قوى اجتماعية تصنف بأنها ضد مصالح النظام العالمي الجديد وحلفائه في المنطقة، كذلك الثورة وقواها الجذرية تعاني من ذات التوجه الإقليمي والدولي الرافض بشكل مستتر لما يمكن أن يسفر عن بناء دولة مدنية وديمقراطية في السودان وإمكانية تقاطعه مع مصالح النظام العالمي الجديد وحلفائه في النظام الإقليمي للشرق الأوسط الكبير!
ترتبط الشرعية الثورية بمبدأ الإرادة الجماهيرية الواسعة الرافضة للوضع الراهن والسلطة القائمة، وتقوم على هذه الشرعية قوى اجتماعية وسياسية يحسب لها ألف حساب بسبب ثقلها الثوري ويمكن أن تكون سلطة أمر واقع لا مناص من تجاهلها، بل الانصياع لها ولإرادتها الغالبة القائمة على مرتكز الشعب. في ١١ أبريل ٢٠١٩ و ٣٠ يونيو ٢٠٢٠، تجسدت الشرعية الثورية لإرادة الشعب السوداني وظفرت في خلق مناخ انتقالي بحكومة مدنية/عسكرية، لم تستمر طويلاً، لمفارقتها أهداف الثورة والتماهي مع مصالح النظام النيوليبرالي من ناحية، ومشاكستها وعدم انسجامها مع مصالح المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي من الناحية الأخرى، مما انتهى بها المطاف إلى حال النظام البائد.
في مسألة الثورة وتغيير النظام السياسي يشير البروفيسور حسين علوان إلى أن “بنى المجتمع ترتبط ارتباطاً وثيقاً وأن البنية السياسية تتصل بهذه البنى الاجتماعية مما يحتم على الثورة تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة لصالح المشروع الاجتماعي والاقتصادي للثورة.” عليه، وبالنظر إلى تجربة الشراكة في إطار الحكم الانتقالي في السودان، فإن تلك التجربة لم تكن تعبر عن أي مشروع اجتماعي واقتصادي، وإنما بُذلت لتبني ذات المشروع الاجتماعي والاقتصادي لما قبل الثورة مع إجراء بعض التغييرات في الجانب الاقتصادي، كرست لمزيد من التبعية والاعتماد على المنح والمعانات الدولية.
وبالعودة إلى مفهوم الشرعية، فإن الثورة السودانية وما لها من شرعية حاسمة، لم توظف الشرعية الثورية في خدمة المشروع الاجتماعي والاقتصادي للثورة، بل تراجعت عنه خطوات حينما قبلت قوى الحرية والتغيير بشراكة المؤسسة العسكرية في شؤون إدارة الدولة، مضافاً إلى ذلك، السير في اتجاه تصفية الثورة السودانية من خلال الممارسة السياسية لحكومة ما بعد الثورة! وكانت تلك الممارسة تنم عن وعي بضرورة تبعية القرار السياسي والاقتصادي للنظام العالمي من خلال ما عرف “بالاندماج في المجتمع الدولي”، هذا بدوره عمق الهوة بين مضمون الثورة وأهدافها والسلوك السياسي لحكومة ما بعد الثورة!
في مقابل ذلك وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في قلب السياسة والحكم في السودان منذ الاستقلال في ١٩٥٦، الطبيعي أن يكون لها دور كبير في إرساء الأمن والدفاع عن مقدرات الدولة إبان فترة الاستقلال، لكن على غير الطبيعي أن تتغول المؤسسة العسكرية في شؤون الحكم وإدارة الدولة وذلك بحكم طبيعة تكوينها العسكري المناط به حماية الأمن القومي والدفاع عن سيادة الدولة من المهددات الخارجية، لا شك أن المستعمر لعب دوراً كبيراً في تكوين قوات دفاع السودان التي أصبحت لاحقاً تعرف بالقوات المسلحة السودانية، فعقيدة القوات المسلحة منذ تكوينها قد شابها التأثير الاستعماري الذي أراد لها أن تكون مؤسسة عسكرية ذات نزعة إلى الحكم وإدارة السياسات العامة في الدولة حتى يضمن استمرار مصالحه السياسية والاقتصادية وفق استراتيجية إبقاء المستعمرة في حيز النفوذ الإمبراطوري للمملكة المتحدة سابقاً والولايات المتحدة الأمريكية في القرن الأمريكي الراهن، وكلاهما يعبر بالضرورة عن الهوية الغربية ذات النزعة الإمبريالية.
منذ تلك اللحظة، لحظة التكوين المشوه، أصبحت الكلية تخرج الضباط العسكريين الذين تقلد عدد مقدر منهم منصب رئاسة الدولة لفترات طويلة مقارنة بالقادة المدنيين، لماذا تنخرط المؤسسة العسكرية في شؤون الحكم وإدارة الدولة بشكل دائم؟
يعزو البعض ذلك إلى أن الأحزاب السياسية هي التي دائماً ما تلجأ إلى المؤسسة العسكرية وتطلب منها تولي أمور البلاد عندما يشتد الصراع السياسي بينها وتدرك هذه الأحزاب السياسية أن لا سبيل لإنهاء الصراع لصالحها سوى المؤسسة العسكرية، والمؤسسة العسكرية بسبب نزوعها للسلطة في تكوينها البنيوي وجنوحها إلى رعاية مصالحها وامتيازاتها، نجدها دائماً في قلب المشهد السياسي بواسطة آلية الانقلاب العسكري لتعيد للواقع السياسي استقراراً نسبياً لم يلبث أن يستمر طويلاً حتى يتجدد ذات المشهد الدائري لثالوث السياسة السودانية المدمر (ثورة، صراع، انقلاب..). كأنما هذه الوصفة الاستعمارية تعلم جيداً كيف تهيمن على المستعمرة بعد تشخيصها الناجح للدولة السودانية، هذا التوصيف ينطبق تماماً على العديد من دول الإقليم، الأفريقي والعربي، لذلك نجد الكثير من نما1ج الانقلابات العسكرية خاصة في قارة أفريقيا.
المؤسسات العسكرية عموماً في بلدان العالم الثالث ترى في نفسها الكفاءة المهنية والشرعية العسكرية لتولي السلطة كلما فشل المدنيون في التوافق السياسي، ويحدث ذلك بالادعاء بأن البلاد تتهددها المخاطر الأمنية ويرون أن المخرج هو الحضور في قلب المشهد السياسي بميكانيزم الشرعية العسكرية والانقلاب على الأوضاع الراهنة رأساً عن عقب لحفظ الأمن وتجنيب البلاد خطر الانزلاق في الحرب الأهلية التي تعرض سيادة الدولة إلى الزوال!
هذا المنطق الأيديولوجي لما يعرف بالشرعية العسكرية تسنده وتدفعه مصالح وامتيازات تراكمت للمؤسسة العسكرية أينما وجدت، من خلال حضورها الصارخ في النشاط السياسي والاقتصادي لدرجة بالغة في التعقيد يمكن وصفها، وصف المؤسسة العسكرية بأنها دولة داخل دولة لا يمكن تفكيكها أو إعادة هيكلتها إلا إذا استطاعت الشرعية الثورية أن تهدم العقلية السائدة للمؤسسة العسكرية وتطبيعها بالشرعية الثورية وأهدافها.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب