الشاعر عصام عيسى رجب لـ(اليوم التالي): القصيدة بلا فكرة كبيت ناهض في الفراغ..

القصيدة تنتمي للشاعر لحظة تخلقها حين تنسرب من يده، فإنها تعرف طريقها وحدها إلى سواه..
ما يبهج الروح في تجربة الكتابة تلك الصداقات الحبيبة مع أصدقائك الشعراء..
ولد سنة 1963م في قرية كجرت، وهي قرية من قرى شمال كردفان، في المنطقة التي تعرف باسم (دار الريح).. الريح تعني هنا الشمال يقابلها الصعيد.. بدأ عصام عيسى رجب مسيرته يقتضي كشاعر بشكل متميز ومتفرد، وشكل إمكاناته وملكاته بسياج محكم من الثقافة والفكر مما أهله لإحداث انقلاب في بنية القصيدة الحديثة. ويُعد شاعرنا من رواد جيل الثمانينيات. يمتلك عالماً من الوعي الشعري والمفردة الهاربة تكتشف دهشة الدخول الأول، تتسم قصائده بالبساطة والعمق والتوازن بين مدارس وفنون الشعر والالتزام بروح شاعرية لها خصوصيتها الجمالية. صدر له ديوان (الخروج قبل الأخير) في العام 1999، ثُمَّ ديوان (شارع يضحك في سره) ببيروت 2009، ثُمَّ ديوان (ظل ممدود بمزاج مائل) عن دار النهضة العربية 2010، يمزج الشاعر في تجربته بين التفعيلة وقصيدة النثر.. فكان لنا معه هذا الحوار:
اليوم التالي: محمد إسماعيل
* لماذا اختار عصام الشعر؟
– الشعر قدرٌ، مثل أن تجئ إلى الوجود سودانياً أسمر النشيد.. أو أن تطلق صرخة وجودك الأولى في جزيرة “بيتانغ” في ماليزيا… أو…
لا أحد يختار أن يكون شاعراً أو قاصاً أو مغنياً… ربما هو العكس، أن تختار القصيدة شاعرها، واللوحة أصابع من يمسك الفرشاة لينفخ فيها الروح.. باكراً جداً (في الصف الثاني الابتدائي تحديداً) وجدت القصيدة طريقها إليّ.. لم تخترني القصة ولا الألوان ولا آلة موسيقية ما، بل كانت القصيدة هي من غمزتني بطرفها فتداعيتُ عليها..
* هل الشعر هو – حقًا – حلم مطلق؟ أم إنه مقيد بالمكان والزمان؟
– الاثنان معاً.. الشعر حلم لا متناهٍ بما هو غير كائن.. أن تشتهي فاكهة الجنة تلك، وأنت هنا تأكل من قصيدة ما أينعت بعد… أن ترى روحك حرة طليقة تسبح في ملكوت اللا منتهى، وواقع أمرك أنك تنتمي إلى دولة لا هي أمريكا ولا اليابان، بل هي لا تزال تحلم بخبز محرم اسمه الديمقراطية وكرامة الإنسان.. هنا يقيدك المكان والزمان (والإنسان الحاكم)، ولكنك كشاعر أو روائي أو.. تأبى أن تتقيد بهكذا مكان أو زمان..
الشاعر القديم قال: ومن وجد الإحسان قيداً تقيد… ولا إحسان بالطبع في التخلف والتراجع وحكم العصور الحجرية، أليس كذلك؟
إذن فلنحلم ما استطعنا إلى الحلم سبيلاً، وهل يغير العالم إلا الحالمون؟
* في خضم انفتاح الكتابات الحداثية على بعضها أيّ حدود فاصلة بين السرد والشعر؟
– ينبغي أن يكون هناك فاصل.. خذ مثلاً فرقة موسيقية تعزف لحناً ما، تخيل قررت كل الآلات أن تتحول إلى كمنجات.. لا ساكسيفون ولا جيتار، لا عود، لا درمز… هو عندي اختلاف نوع (جنس أدبي)، فالسرد سرد، والشعر كذا..
“موسم الهجرة إلى الشمال” سرد وإن توشحت بجمال لغة شاعرية عالية.. “العودة إلى سنار” قصيدة، وهي تقص عليك قصصها البديعة تلك.. وكذا الحال لكتابات الجيل الجديد، فكل روايات عبد العزيز بركة ساكن سرد، ولا ينبغي لها أن تكون غير ذلك… وفي المقابل المجموعات الشعرية لـ”نصار الحاج” و”عفيف إسماعيل” و”بابكر الوسيلة” و”الصادق الرضي” و… جميلين آخرين وجميلات…
* تمثل تجربتك الشعرية أكثر من خمسة دواوين. هل تعتقد أنها وصلت الناس؟
– ربما، أو قُلْ؛ أظن ذلك. وإن كنت لم أنشر سوى ثلاثة كتب شعرية، وبقيت خمس مجموعات شعرية مطويات ينتظرن النشر.. وقصائد متفرقة في الصحف والمجلات والإنترنت.. ربما لم يكن نصيبي من نقد النقاد كما أرجو، ولعله حال الكثير من شعراء جيلي والشعراء قبلي وبعدي أيضاً.. في ظني أن الناس وفي السودان تعرف “الخروج قبل الأخير” أكثر من الكتابين اللذان تلياه، إذ صدر نهاية القرن الماضي (1999م)، وناشره (مركز الدراسات السودانية) وزَّعه داخل السودان، وخارجه.. ونال حظه من تناول المتناولين له، وأذكر هنا بمحبة خاصة ما كتبه عنه، وبمحبة حانية، كبيرنا محمد المكي إبراهيم في كتابه “ظلال وأفيال”..
أما “شارع يضحك في سره” الصادر ببيروت في 2009م، و”ظلٌّ ممدود بمزاج مائل” عن دار النهضة، بيروت 2010م، فربما عرفهما القارئ خارج السودان أكثر.. وكتبت عنهما كاتبتان وكاتبان في صحف لبنانية، وتجدهما في مواقع بيع الكتب مثل “النيل والفرات”.. مثلما تجد ما كتب عنهما منشوراً في مواقع الإنترنت العربية هنا وهناك.. ودعني أشير هنا بشكل خاص لكتابات د. عبد الماجد عبد الرحمن عن كتبي الثلاثة، وكتابة د. لمياء شمت عن (شارع يضحك في سره) وكتابة نصار الحاج عن (الخروج قبل الأخير) وكتابات أخرى متفرقة هنا وهناك..
ولا تنسَ العديد من الحوارات الصحفية التي أضاءت بلا شك كثيراً ما أكتب، إذ كانت الأسئلة تجهد أن تسبر غور القصائد وتجارب كتابتها.. وقد لاحظت أن إجاباتي عن ذات الأسئلة التي يطرحها محاورون مختلفون وفي أزمان وظروف شتى، تتباين وكأني كل مرة أجيب عن سؤال جديد وليس نفس السؤال الذي يتكرر طرحه على نحو أو آخر..
تعرف ما يبهج الروح في تجربة الكتابة؟
إنه تلك الصداقات الحبيبة مع أصدقائك الشعراء (دعْ عنك قول المتنبئ” .. عداوة الشعراء بئس المقتنى”، هؤلاء عنيت الشعراء، لا يجيدون العداوة إلا نادراً نادراً)، الصداقات الجميلة مع محاوريك، ومع من يقرأك… مع شاعرة أو قارئ لم ترهما أو تعرفهما من قبل، وربما لن، وما بينكم غير قصيدة خرجت منك ولم تعد، وعادت بدلاً عنها إلفة أشهى من القصيدة.. وأشهى..
* ماذا يعني لك المكان كشاعر؟ وماذا يعنيه لك كإنسان؟
– حين يأخذك قدرك إلى أمكنة ما خطر ببالك أنك ستأتيها يوماً، وتمكث فيها سنين عدداً، لا تعود تنظر إلى المكان كرقعة جغرافية بعينها.. الأصل في الأشياء، أو قل ما اعتاده الناس، أو فمعظمهم، أن يولد الإنسان في بلاده، ويترعرع ويعيش ويموت فيها.. لا أدري مثلاً كم هي نسبة اليابانيين الذين هاجروا إلى بلدان أخرى وعاشوا فيها سنين ربما جاوزت عقداً وعقدين من الزمان..؟!
ليتك تقرأ قصيدة “الشاعر” أو “أوغاما” في ديوان “شارع يضحك في سره”، أو قصيدة أخرى في مجموعة “ظلّ ممدود بمزاج مائل” هي قصيدة “سيرة موت معلن” والتي أخذت اسمها من رواية “ماركيز” الشهيرة بذات الاسم، لتعرف ما يفعل المكان بالشاعر.. أو الشاعر بالمكان.. أحسب أن العديد من قصائد كتابيّ هذين غارقة في جدل ما مع المكان..
على ذكر المكان والشعر، عندي قصيدة قصيرة النفس اسمها “غناء المكان” وهي من قصائد “شارع يضحك في سره”، دعني أقرأها عليك هنا:
تدخل هذي الصبية صوتك عاشرة
تجر الفراغ الوحيد إلى جذعها
تطيل التأمل في ساعديك،
فهل…
تمد يديها إلى الخاصرة
يروغ الهواء إلى أيّ ركن فسيح
فكن شهوتيها
إلى ما رأته منام طفولتها
كن نهر ضحكتها في البنات
دعها تطيل غناء المكان..
* حدِّثنا عن المسافة بين الشاعر والقصيدة؟
– رغم ما يبدو لنا من قرب هكذا مسافة بين الشاعر وقصيدته، فواقع الحال ليس كذلك.. القصيدة تنتمي للشاعر لحظة تخلقها.. أما وقد انسربت من يده، فإنها تعرف طريقها وحدها إلى سواه.. فتصادق “تربالاً” في “كردفان” أو عاشقة في “أستراليا” أو مع امرأة في “البرازيل”.. أو يقرأها صديق لك هاجر قبل سنوات إلى كندا..
القصائد كالبنات والأبناء، ما أن تشب عن الطوق (لحظة الخلق والكتابة) حتى تلوح لك بكف الوداع.. لا سلطان لك بها بعد وقد خرجت عن طور خلقك.. هل نغضب لذلك أو نأسى أو.. لا أحسب ذلك، إلا بمقدار ما يغضب الآباء أو تأسي الأمهات للأبناء والبنات، وقد انسربوا إلى أنهار حياتهم ودُناهم..
متى تشعر بضرورة الكتابة؟
– الكتابة حاجة إنسانية نحتاجها، ربما دائماً أو ما يقرب من ذلك، كحاجتنا (عنيت الكاتبين والكاتبات) للهواء والماء والخبز والحرية والغناء الجميل، أكتب حين أحس حاجة كهذه، فعندما نكتب ولا حاجة أو رغبة أو عاطفة حقيقة لما نكتب، تجئ الكتابة خائرة الحبر والنفس وباهتة العواء وبلا جنون، وهكذا كتابة أحسن منها بياض ورماد اللا كتابة، لكنك ربما تكتب حين يغرس حدث ما خنجره في عصبك، رحيل شاعر جميل كمحجوب شريف أو عازف بهي كمحمدية أو روائي كبير كالطيب صالح، بالمقابل تضحك طفلتك، فتضحك أنهار القصائد بين جنبيك.
* يرى بعض النقاد أن صورة المرأة في تجربتك الشعرية تخترق أغلب النصوص، ماذا تقول في هذا المجال؟
– قديماً قال ابن عربي: المكان الذي لا يؤنث، لا يعول عليه، وأضيف: وكذا القصيدة، وعبد الوهاب البياتي قال: شاعر بلا امرأة، عرّاف أعمى، الأنثى قلب الكون ومركزه، فقط تخيل معي لو أن من يحكمن العالم هنا النساء (سيدات الحياة الجميلات)، اللاتي زين فيما زين قصيدتي، سفر السكينة:
والسكينة،
نحن النساء
سيدات الحياة الجميلات
رياحين أنفسنا
أجسادنا تكتب الشعر
هل يمكنك أن تتخيل كتابة ما لا ترخي عليه المرأة ضفائرها وأنوثتها الأبدية، ولا تنسمنا جنته أياديهن الجميلة من الشعر والقصة والرواية، حضور المرأة ربما الكثيف، في قصيدتي هو قليل من حنيني الذي لا ينتهي لغيم حنانها الماطر ما كانت الحياة.
* هل ترى أن العلاقة بين الشاعر والعالم، علاقة حرة؟
– الحرية هي القيمة الأساسية للوجود. وإحساس الشاعر حين يكتب أنه حرٌّ، شيءٌ لا يمكن أن تقوم الكتابة قائمة بدونه، حتى وإن سجنك سجانك، هو فقط يسجن جسدك لا روحك وفكرتك وقصيدتك، أنت حرٌّ في علاقتك بالعالم، تحبه، تكرهه، تصدقه نشيدك، تراوغه أو، أكثر السجون بؤساً هو سجن الروح، وهذا لا يضعك فيه حاكم أو سواه، وإن طغى وتجبر، أنت لا سواك من بيده حرية روحك.
* هل للقصائد مدن؟ وهل تحنُّ لمدينتك ومسقط رأسك؟
– ربما يصعب شيئاً ما على الشعراء المهاجرين مثلي الارتباط بمدن الآخرين، حتى وإن طال بهم مكوثهم هناك سنوات وسنوات،. خاصة إن كان وجودهم في هكذا مدن قائم على أساس لا علاقة مباشرة له بكونهم شعراء أو كتاب، وخاصة إن كانت مدن مهاجرهم لا تنظر إليهم كشعراء أو كُتَّاباً إلا نادراً نادراً، يكون الحنين في حال كذا إلى بلدك كلها من أقصاها إلى أقصاها، إلى النيل بطوله وسمرته، إلى سماوات وتراب بلدك وناسه وطيره وشجره وصخره.
* من أين تستمد موضوعاتك وأفكارك الشعرية؟
– لو كان لي أن أختار موضوعاتي الشعرية، لملتُ أكثر لقصائد بسيطة، كما يتحدث الغيم إلى العشب والماء إلى الصخر، قصائد تحتفي لا بالإنسان فحسب، بل بالشجر وبيوت الطين وكلام الطير، ولبعدتُ عن الطواف حول التراث وهمها الذي يبقى ضيقاً مهما حاول الشاعر أن ينفخ في قربته، إن جاز مثل هذا القول.
* ما المهمة التي يضطلع بها الشاعر في العالم؟
– مهمة يشاركه فيها أهل الأدب والفن عموماً، وهي تذكير الإنسان أن له مهام أخرى في هذه الحياة غير اللهث وراء الخبز، مع التسليم بأهمية الخبز، والفقر الحقيقي هو فقر الروح، ولعل من أصدق المقولات الدينية في هذا الخصوص هو قول المسيح عليه السلام: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
بيت شعر وحيد قد يسمو بروحك أبد الدهر فوق ألمك وحزنك، كما لا بأس أن تمدَّ القصيدة لسانها من حين لآخر لطاغية هنا أو هناك، تماماً كما صاح ذلكم الولد بالناس: انظروا ملكنا العريان!!
* ما العنصر الأهم في القصيدة؛ الفكرة أم الصورة الشعرية؟
– فلنتحدث هنا عن كائن اسمه القصيدة، عسير حقاً رده إلى مواده الأولية فنقول هنا الفكرة وهناك الصورة الشعرية، وذلك هو بدء الإيقاع… و….
الفكرة والصورة الشعرية وسواها مثل الجذور والساق والأوراق في شجرة ما، بدون أيّ منها لا تكون الشجرة شجرة، تكون جذراً، أو ساقاً أو ورقة، ولكن قطعاً ليست شجرة.. لا يمكن للقصيدة أن تكون بلا فكرة، كبيت ناهض في الفراغ..