مراجعة كتاب.. أفريقيا المستهدفة

محمد عثمان ابراهيم
بعنوانه الطويل الذي يأتي لوحده في خمسة عشرة كلمة كاملة بمفردتين رئيسيتين: إفريقيا المستهدفة، ثم عنوان فرعي: الاستعمار الأيديولوجي الجديد في القرن الحادي والعشرين، يليه تحديد للقضية التي يهتم الكتاب ببحثها بين قوسين: (المساعدات الغربية في خدمة الأجندة النسوية)، فإن هذا الكتاب لا يُقرأ على عجل ولا يقرأ أبداً ليترك على الرف وإنما هو كتاب يستلزم الاحتفاظ به دائماً في حقيبة كل مهتم بقضايا العيش على هذا الكوكب من سكان القارة الأفريقية أو كما كتب الناشر – مجلة قراءات إفريقية- عن حق في صدره “هذا الكتاب، ينبغي لكل إفريقي، وكل محب لإفريقيا ومهتم بها، أن يقرأه، ليدرك حجم الخطر الذي يهدد إفريقيا: إنساناً وهوية).
يأتى الكتاب في ٢٤٨ صفحة من الحجم المتوسط على شكل مقالات منفصلة تربط بينها ثيمة واحدة مشتركة وهي العلاقة الملتبسة بين الغرب وأفريقيا في عهد ما يسمى (ما بعد الاستعمار) حيث يزعم كثيرون أن الإمبراطوريات الغربية قد تخلت عن المسئولية المباشرة عن المناطق التي كانت تحتلها والشعوب التي كانت تنهب خيراتها وتستعبدها بعد أن صنعت من بينهم نخباً تقوم بذات الدور وهي تحمل في داخلها جينات المحتل ذاته وإن انحدرت من صلب الضحايا.
مؤلفة الكتاب هي الاختصاصية في علم الأحياء والناشطة النيجيرية أوبيانوجوإكيوتشا (ولدت عام ١٩٧٩م في نيجيريا وتلقت تعليمها هناك ثم حصلت على دراسات عليا في بريطانيا) والتي تتنوع اهتماماتها ما بين العلوم والدين (كاثوليكية متدينة) وبين دراسات الهوية وما بعد الاستعمار ويأتي كتابها ناهلاً من كل هذه الاهتمامات المتنوعة وإن كانت جميعها تصب في صالح قضايا الإنسان والمرأة الأفريقية بشكل أكثر تخصيصاً.
يبدأ الكتاب بمقدمات متنوعة تعمل كمفاتيح مهمة للكتاب أولها مقدمة المترجمة الأستاذة أسماء عبدالرازق ساتي وهي باحثة في قضايا الأسرة والتنمية والهوية الاجتماعية والتي تقول محقة إن ” العلوم والتقنية تخطو خطوات كبيرة كل يوم، لكن فوائدها لا تصل إلى أغلبية كبيرة بل هما في خدمة أصحاب النزعة الاستهلاكية التي تهدر الموارد المحدودة، وتهدد الحياة على هذا الكوكب” وتمضي لتكشف عما تسميه باستهداف ما يسمى بالدول النامية والأقل نمواً من قبل الغرب “إلى حد التدخل في صميم خصوصياتها، وإعادة تشكيل هوياتها، وتحديد أنماط نشاطها الثقافي والاقتصادي والسياسي”! ترى هل يثير مثل هذا الكلام انتباه السودانيين في عصر ما بعد البشير؟وتوضح المترجمة أن الكاتبة تفصل في هذا الكتاب ” أساليب الهيمنة التي انتهجها المستهدفون لقارة إفريقيا – شأنها شأن المجتمعات الموصومة بالتأخر- وتطفلهم على شئونها السياسية الداخلية، ودأبهم لتغيير العادات الاجتماعية تخت ستار محاربة “المهام والصور النمطية”، واحتيالهم لتبديل التشريعات المحلية” ترى من نسي منا نشاط الوزير السابق في حكومة د. عبد الله حمدوك، نصرالدين عبدالباري، في هذه المهمة؟ فعلاً هذا كتاب لا غنى عنه.
قدم للكتاب المثقف البارز والأكاديمي الأمريكي روبرت بيتر جورج أستاذ القانون والخبير في قضايا القيم الغربية مفتتحاً مقدمته بأنه كان يتمنى لو صحت العبارة الدارجة أحياناً بأن “سكان جنوب الصحراء الإفريقية، وبعض الأجزاء النامية في العالم، تعيش في مجتمع ما بعد الاستعمار” حاسماً القضية بأن “استعباد الناس والشعوب الأفريقية والشعوب الأخرى لم ينته بعد” وإن هذا الاستعمار لم يعد بحاجة إلى الجيوش وإنما هو استعمار أيديولوجي.
يبدأ الكتاب بمقدمة تخلط ما بين التاريخ الشخصي لطفلة عاش أبواها -بأريحية- في العهد الإستعماري وعاشت هي بضجر من الاحتلال في عهد ما بعد الاستعمار حتى تخلص ببراعة إلى خاتمة مقدمتها ومفتتح كتابها بأن “عون إفريقيا المحتاجة: بوابة الاحتلال الأيديولوجي” مشيرة إلى التعقيدات الكبيرة التي طبعت مفهوم الاستعمار حتى لدى شعوب القوى الغربية المحتلة التي ظنت أنها بقيامها بإحتلال القارة فإنما هي تحسن صنعاً وإن المستفيدين الحقيقيين من الاستعمار (وهي مفردة تجد جذرها في اللغة العربية من عمّر ومصدرها عمران واعمار مما يخفي الدلالات السلبية لحقيقة الاحتلال) هم الشعوب المحتلة نفسها وفق إنسانية الجنس الأبيض التي سار بها شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كيبلينغ الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام ١٩٠٧م وهو بعد في الثانية والأربعين من عمره!
تأتي بقية صفحات منسابة في ثمانية فصول وخاتمة وملحق حيث الفصل الأول عن (التحكم في عدد السكان) ويتناول أفكار التحذير من الانفجار السكاني في قارة قليلة السكان أصلاً وقادرة على اطعام وإثراء الملايين من قاطنيها بكل طيبة خاطر من ثرواتها الهائلة. ويعالج هذا الفصل أيضاً قضايا تشجيع عدم الانجاب، ومحاربة الخصوبة لدى النساء، وتشجيع استخدام العوازل الطبية وعقاقير منع الحمل، والصمت عن والتغطية على مخاطرها الصحية على النساء في مناخ تتردى فيه الخدمات الطبية والارشادية.
أما الفصل الثاني (أغراق الشباب في الشهوات) فيفتتح بحكاية عن أحد أنشطة الدورة الخمسين للجنة السكان والتنمية التابعة للأمم المتحدة عام ٢٠١٧م. كان المنشط برعاية فرنسا بعنوان (الصحة الجنسية والإنجابية: تلبية احتياجات الشباب) حيث جلس السكرتير الفرنسي للتنمية رئيساً للمنشط وعلى جانبيه وزراء من الدول الفرانكوفونية مؤيدين لحديثه عن النشاط الجنسي للشباب وتثقيفهم وتوفير العوازل والواقيات الذكرية لهم، وممتنعين عن الحديث عن قيمهم التقليدية والعائلية والدينية ذات الصلة بقضايا الحياة الجنسية والزواج والإنجاب. عوضاً عن ذلك تحدث الوزراء الأفارقة معتذرين عن المعدلات المرتفعة لخصوبتهم وعن انخفاض استخدامهم لموانع الحمل فيما الوزير الفرنسي يحدثهم بفخر عن سهولة حصول الشباب في بلاده على العوازل الذكرية ويسر الإجهاض إذا ما سارت الأمور على غير المشتهى.
يتناول هذا الفصل موضوعات النشر المكثف حول الجنس والقوانين الجديدة ذات الصلة وانتشار فيروس الإيدز والموت الحتمي للسكان أو ما أسمته الكاتبة “الفشل في تجنب الموت في إفريقيا” إضافة إلى (عوزلة) القارة والتحكم في علاقات أفرادها عبر ضخ الآلاف من التوصيات المسمومة في المؤتمرات وحلقات الدراسات وغيرها.
يهتم الفصل الثالث ب(بذور الأنثوية الأصولية) أو الفيمنيزم وكيف أنها تحولت من نشاط للدفاع عن المرأة ووجودها في المجتمع على نسق متناغم مع الرجل إلى حركة أصولية معادية لقيم المجتمع،والترويج للتحرر الجنسي، وفي هذا الفصل تقدم الكاتبة تفاصيل لا غنى عنها للباحثين والباحثات عن نشاط الفيمينزم في أفريقيا وتمويله، والجهات التي ترعاه في الغرب، وتختتم الفصل بالحديث عنالميثاق الإفريقي المتعلق بحقوق المرأة في أفريقيا أو ما في أدبيات حقوق الإنسان بإسم بروتوكول مابوتو (العاصمة الموزمبيقية) الذي كان منوطاً به الارتقاء بالمرأة الأفريقية ودورها في المجتمع وانتهى إلى مجرد تحالف من أجل تقنين الإجهاض.
وتنطلق الكاتبة من هنا لتخصص الفصل الرابع لقضايا الإجهاض وحرمة النفس البشرية، وتشابكات فكرته وممارسته مع الأديان والأعراف والقوانين، والتشريعات التي تتم خلسة له في دول مثل نيجيريا وسيراليون إضافة إلى الحقائق المرة عن الإجهاض غير القانوني في القارة والمآسي المترتبة عليه.
أما الفصل الخامس فيمضي غير بعيد عن هذا المسار حيث يتناول أمور التطبيع مع المثلية الجنسية حيث تبدأ بالحديث عن تجربة قبيلة الإيبو التي تنتمي إليها في الزواج والتقاليد والمراسم والطقوس الممارسة لتقنين المعاشرة الجنسية بين الزوجين بهدف الإنجاب. وتشير الكاتبة إلى رسالتها إلى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الذي دعا الأفارقة إلى تقبل السلوك الجنسي المثلي في مجتمعاتهم وإلغاء تجريمه في القوانين المحلية، وهي رسالة ذات حمولة فكرية وعاطفية مهيبة حدثته فيها عن المثل والقيم الاجتماعية الإفريقية التي تعمل على اعلاء المصلحة العليا للأسرة والطفل على المتعة الجنسية، وحاجة الأطفال للنشوء في عائلات ذات أب وأم، ودعته إلى عدم اتخاذ الممارسات الشنيعة مثل ختان الإناث كذريعة لتفكيك مؤسسة العائلة مشيرة إلى أن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث يكفي ولا حاجة لهم للمزيد من التشوهات. وتختتم الكاتبة هذا الفصل بمقطع بارع بعنوان (اخضع! أركع! وإلا ستسحق!).
يصور الفصل السادس ما يسميه بالسادة الأستعماريين الجدد وتطرفهم وتعاليهم وتطفلهم وتسللهم إلى المؤسسات الرسمية الأفريقية. وضربت الكاتبة مثلاً لرسائل متبادلة بين وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون ولاوريروبينير نائبة رئيسة فيدرالية تنظيم الأسرة في أمريكا حيث طلبت الأخيرة من كلينتون التدخل لدى الحكومة الكينية لإلغاء التشريعات المتعلقة بمنع الإجهاض واصفة إياها بأنها إحدى التشريعات الأكثر تشدداً في القارة فهو غير مشروع ما لم تهدد حياة المرأة ويعاقب المرأة وممارس العملية.
وتهتم الفصول السابع والثامن بسطوة اغراء المال والمعونات وفساد الطبقة السياسية في إفريقيا وتبعيتها المفرطة للغرب وتتناول أسباب ما تسميه بالإستعمار الأيديولوجي وقضايا اللغات والاستلاب الثقافي وتهديد القيم الثقافية الإفريقية.
ثم تتناول في ملحق الكتاب رسالة كانت قد كتبتها للسيدة ميليندا غيتس زوجة الملياردير الأمريكي وقطب عصر التقنية والحاسوب بيل غيتس عن مشروع جمع خمسة مليارات دولار لمحاربة الإنجاب في إفريقيا تحت شعارات التحرر والتمتع بحياة جنسية بدون أطفال وهي الرسالة التي قالت فيها ” في خضم كل صعوباتنا ومتاعبنا في إفريقيا، ووسط كل القلاقل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، فإن أطفالنا دائماً هم رمز الأمل الراسخ، ووعد الحياة، ودافع النضال من أجل مستقبل مشرق” ووصفت هذا المشروع الملياري بأنه يتم من أجل تحويل الحياة الجنسية إلى لهو عابر سيتسبب في انتشار الأمراض البدنية والإجتماعية ويزيد من مخاطر. الأصابات بأمراض جديدة إضافة إلى التبعات المفزعة لعمليات الإجهاض.
هذا كتاب لا غنى عنه بالفعل وهو كتاب جدير بالقراءة وإعادة القراءة والتدبر وهو وإن كان مكتوباً بعناية من قبل باحثة وناشطة ومثقفة وامرأة إفريقية مهتمة بقضايا قارتها فقد جاءت الترجمة بارعة في صياغاتها وأسلوبها ونقلها للنص وروحه في لغة مضبوطة ومحكمة. الشكر والتقدير للباحثة الأستاذة أسماء عبد الرازق ساتي والتي تأتي أيضاً من خلفية عميقة الصلات بالعلوم والفكر والثقافة الإنسانية حيث تخرجت من كلية العلوم الرياضية والمعلوماتية بجامعة الخرطوم، وأجرت ونشرت عدداً من الأبحاث والدراسات حول قضايا الأسرة والتنمية وحقوق الإنسان، مستعينة على ذلك بمعرفة وثيقة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية.
أرشح هذا الكتاب لجميع المهتمين بقضايا المجتمع والحياة والثقافة ومستقبل الشعوب الإفريقية في عالم تتغير أرضيته من تحت أقدامنا بإستمرار. هذا الكتاب أساسي ضمن معارف مهمة تبلغنا بالطريق الذي تساق إليه شعوبنا إذا لم نستيقظ ونسهم في ايقاظ شباب مجتمعاتنا الخاضعة لسطوة النخب الفاسدة.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب