صلاح شعيب
من قرية الفريجاب بولاية الجزيرة بدأت مراحله الدراسية ثم طابت، ثم حنتوب الثانوية، ومنها إلى جامعة الخرطوم ملتحقاً بكلية الطب. وهناك مستهل نشأته الصوفية حيث كان والده من أحد شيوخ القرية الذين يحفظون القرآن الكريم فيعلمونه للحيران. وهكذا شب الفتى المهذب مجوداً للغة، وحافظاً للبيان، وعارفا بالتبيين، ومتخلقاً بطيبة أهل القرية حتى إن استقر في المدينة، وصار من رموزها المميزين بقي طيبا، وكريماً، وحفياً بوطنه. لقد كان، وما يزال، شاعرنا نجماً ذا دفع رباعي في سماء الرياضة، والطب، والصحافة، والشعر.. فعندما ولجنا باب الصحافة أول مرة وجدناه حضورا مميزا، يتلألأ كنجمه الذي استهام به. نجده في هذه الملمات بشوشاً أنيقاً للغاية، وفي المحافل هذي التي ارتبط بها لأربعة عقود يتنقل بابتسامته، وهذره اللطيف، ويربت على كتوف أصدقائه الكثر بمودة غامرة. نقرأ له مريخياته السلسلة فلا نخال سوى أنه وريث شرعي لأدب صاحب العواتك الأديب صالح بانقا صالح ابن البان، أو هو امتداد لخالد أبو الروس، وطه محمد طه، وأدهم علي، وحاج حسن عثمان، والسر قدور، ومحمد جيب الله كدكي، هؤلاء الذين التفوا بأقلامهم الذهبية منافحين عن رهانهم المريخ، ومتوسمين صدقاً، وقناعة، في مديح الشاعر الفحل محمد عبد القادر كرف:
عشت يا مريخ موفور القيم ..ناهض العزة خفاق العلم
وللفانلة الحمراء كان تحيز د. عمر الواضح بالشعر، والمقالة، والطبابة، مثله مثل صديقه الشاعر والأديب فتح الله إبراهيم، ذلك المريخابي الشفيف الذي يجاريه في الأدب الرياضي، وكتابة الشعر. ومع ذلك كانت علاقته بالرياضيين مثل علاقة الراحل المريخي البروفيسير علي المك، والقاضي شدو، وخالد حسن عباس، وطه صالح شريف. يجتمع الرياضيون عند عيادته المفتوحة، ولا تجد هناك سوى القفشات وسطهم. وتلك كانت العلاقة المتينة التي سمت أهل الرياضة في ذلك العهد الذهبي الذي كان فيه دكتور الكرة السودانية كمال عبد الوهاب يمثل بعبعاً للهلالاب، والصياد وكسلا يتقاسمان تلوين منطقة الوسط، ويكثر حذر سليمان أبو داؤود، وسيماوي، وود الحاجة من كافينول بري، ولا تنسى مايكل التحرير.
هناك في عيادة د. عمر وجدت الرياضيين يختلفون حول الانتماء، ويعلوا صوتهم بالمبارزة حول لاعبين جدد لهم يجعلون رواد المسطبة الشمالية يمسكون الخشب، كما كان يكتب الصحافي محمد محمود هساي في مانشيتات صحيفة الكابتن. ولكنهم في خاتم المطاف هم الرياضيون إذ ينتمون إلى الفضاء الإنساني الرحب فتحسب أن صداقاتهم تذوب علقم الهزائم المرة التي يتجرعها فريق قمة من آخر، أو من التحرير الذي يكتفي من غنيمة اللقاء دائماً بالتعادل. كان زمان فيه على الوجهة الأخرى أمة الهلال الريس الطيب عبدالله، وعثمان يعقوب، ومختار وعمر وفؤاد التوم، وفيصل محمود، والوسيلة العكام، وعمر مهدي هؤلاء الإداريون الذين كانوا يمولون أندية القمة ولا يأخذون شيئا مثلما هو حادث الآن حيث صارت أندية القمة مرتعا لذوي الانتهازية.
ولعل د. عمر عاصر مريخ شاخور، ومحمد إلياس محجوب، ومهدي الفكي الذي لقبه د. عمر برئيس الرؤساء، وحسن أبو العائلة، وعبد الحميد حجوج، والفريق منصور، والحجاج الثلاثة، حاج مزمل، وحاج زروق، وحاج التوم الجرق. عاصرهم طبيباً للنادي، وصحفيا يرأس مجلس إدارة صحيفته، وقطبا من أقطابه الذين يزينون سجله الحافل بالكأسات المحمولة جواً، وقد كان للطبيب عمر نصيب في كأس جوبا الذي جاء بهدف سامي عز الدين، وقد كان حينها الطبيب المرافق للبعثة.
وحينما استباحت الرأسمالية الطفيلية النادي ابتعد بشفافيته ولم يستطع أن يجاري رؤسائها الأناطين الذين أفسدوا الإدارة الرياضية، وانزوى الشاعر مع كثيرين عن النادي الذي صار نهبا لمغامرات المقامرين وادعياء المحبة لهذا الصرح الذي كان يديره المثقفون، وأميز رموز الخدمة المدنية، ونوابغ البلاد.
أما في مجال الطب فكان د. عمرالنطاسي البارع في المجال، حيث تخرج في جامعة الخرطوم أيام مجدها الذهبي طبيبا متخصصا في الامراض الصدرية. وعند يوم الجمعة تلوذ أرباب الأسر إلى برنامجه التلفزيوني الطبي فيقدم مادة علمية غنية بالنصائح، والتنوير الصحي، بلغة سهلة يستفهمها عوام الناس، فكأنه مثل أنيس منصور الذي أنزل الفلسفة من عليائها، وبسطها في عموده الصحفي بالأهرام القاهرية.
وفي الشعر كان عمر محمود خالد نجما لا تخطئه منتديات السبعينات، والثمانينات، والتسعينات، وخصوصا الجامعات. يشارك فيها بقريضه الغنائي، ويتحدث عن معرفة عن تواريخ رموز المجال منذ العبادي، والجاغريو، وجده محمد سعيد العباسي، وابن خاله الشاعر الكبير سيف الدين الدسوقي.
كان رمزنا بحق كوكتيلا من المعارف التي جمعت العلمي بالادبي، والرياضي. ونادرون هم رموزنا الذين لا تعرف لهم تفضيلا لإنجازاتهم المعرفية على الإبداعية، والعكس صحيح.
في فترة من الفترات ألفيتني قريبا منه فوجدت عنده إنسانية فائقة، نتلاقى في سوح الرياضة، وأحيانا أزوره في عيادته لأخرج منه بقراءة قصيدة جديدة وعمر متميز بطيبة أهله في الجزيرة، وودهم اللامتناهي للأنس، وحافظ على قيم الأهل هناك رغم محاولات النظام المباد الذي استهدفه بعد أن فشل في تدجينه ضمن كوكبة من المبدعين، والمهنيين، الذين وقعوا فريسة لمغرياته.
كانت “يا سيدة لا” من أولى القصائد التي قدمته للجمهور في عام ١٩٧١ حيث كان طالبا في جامعة الخرطوم معبرا عن تقديره لزميلته الراحلة سيدة على كرار، ومنذ ذلك التاريخ انطلق بلبلا يغرد في فضاءات الشعر. وهكذا بقي من نجوم الشعر العاطفي في المنتديات الثقافية في الجامعات والمواقع الثقافية إلى أن التقى بالفنان محمد الأمين عبر أغنيتين مميزتين هما “خمس سنين” و”حلم الأماسي”. ولقد مر زمن طويل منذ غياب ذلك الشعر الغنائي المسبك الذي يسير على نمط هاتين الأغنيتين اللتين منحهما الباشكاتاب أجمل بنات خياله. وربما كان الشاعر عمر برهافته المعهودة قد صب لوعته بكل ما يملك في قريضه فجاءت قصائده مزينة بغربته التي امتدت لخمس سنين في الجماهيرية الليبية. فكانت “خمسة نسنين” مملوءة بالشوق إلى رفيقة دربه الأستاذة ناهد محمود، والتي هي الأخرى ارتبطت في فترة من الفترات بالإبداع حيث شغلت أدوارا في برنامج جنة الأطفال مع بابا فزاري، ومثلت مع الجد شعبان. وكذلك انضمت لفرقة الفنون الشعبية وجابت أنحاء من العالم فعكست مع زميلاتها ثقافة البلاد.
وفيما يتعلق بتعاونه مع بقية الفنانين، يقول الصحافي سراج الدين مصطفى إن الموسيقار محمد آدم المنصوري قدم الفنان محمود تاور عبر أغنية منابع النور للشاعر عمر محمود في مهرجان الثقافة الثالث عام 1978، وأضاف سراج الدين أن نهر العطاء تواصل فهناك (لو بتسمح) لدى محمد ميرغني أيضاً (وسمحة جداً سمحة آية.. والسماح بس ما كفاية) لصلاح مصطفى، (ياتو السمح لون الدهب ولا القمح) لدى عاصم البنا، (فرح البيادر) لعزالدين عبد الماجد، و(لو مهاجر ماني هاجر.. لو بغيب أنا من عيونك.. انت في عينيّ حاضر) للفنان القدير عبدالرحمن عبد الله.
ولأنه كان نموذجا في المجتمع، ومحبا لتقديم الحب، والخير، والجمال، في أكثر من منحى، ومكتسبا لعلاقات واسعة مع طائفة من الناس بمختلف مشاربهم، تضامنت قطاعات متمددة للمجتمع السوداني مع الطبيب عمر في مرضه الأخير، ووقفت بجانبه تدعو له بالشفاء العاجل حتى يعود بعافية تامة إلى جميع الأوساط الذي عرفت فيه دماثة الخلق، وحسن المعشر. ومن على البعد نرسل تحياتنا للصديق عمر محمود خالد، ونقول له إن محبة الناس لك هي من محبة الله فيك يا أيها الإنسان النادر. ونأمل أن تغادر السرير الأبيض، فما تزال هناك أسباب ملحة تجعلنا ننتظر استمرار مساهمتك لترقية وعي مجتمعنا في هذه المحافل التي ازدانت ببهاء شخصكم النبيل لمدى يقارب نصف قرن.