في الغرب والشرق… حرية الإعلام تُعاني!

د. ياسر عبد العزيز
في مطلع الألفية الجارية كانت الآمال كبيرة في أن تتلقى حرية الصحافة المزيد من الدعم والتأييد على المستوى العالمي، وقد تواكبت تلك الآمال مع تطورات قانونية وإجرائية انعكست بوضوح في تعزيز الممارسات الإعلامية الحرة، في ظل تطور مدهش حققته الوظيفة الإخبارية لمواقع «التواصل الاجتماعي».
لكن الرياح قد تأتي، كما نعرف، بما لا تشتهيه السفن، فما لبثت تلك الوظيفة الإخبارية المتنامية لمواقع «التواصل الاجتماعي» أن تتحول إلى صداع في رأس منظومة المعلومات العالمية؛ إذ حفلت بالكثير من الغش والتدليس، مستفيدة من نقص واضح في الآليات المُحكمة للضبط العمومي أو التنظيم الذاتي.
ومع تصاعد المخاوف التي بلغت ذروتها في مواكبة الاضطرابات والانتفاضات، التي شهدتها بقاع مختلفة في العالم، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، راحت الضغوط تتزايد على حرية الإعلام المؤسسي من جانب، واجتهدت الأطر القانونية والتنظيمية في إرساء قيود على «الممارسات الحادة» عبر وسائط «السوشيال ميديا» من جانب آخر.
ولم يمر وقت كبير حتى أتت الأخبار عن صعود مُطرد للتيارات اليمينية والحركات الفاشية في أماكن مختلفة من العالم، وبعدما أثبتت دراسات موثوقة عديدة أن الوسط الإخباري العالمي قدّم الكثير من الهدايا للخطابات الحادة والتحريضية، وأضحى مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن كثير من الاضطرابات وأحداث العنف، تكثفت الضغوط الرامية إلى ضبط الممارسات الإعلامية وتقييدها.
وكان إيجاد الرابط بين صعود الخطابات الحادة والميول الشعبوية من جانب والممارسات الإخبارية والصحافية المنفلتة من جانب آخر عاملاً جوهرياً في صدور العديد من القوانين وإقرار المزيد من السياسات التي وُصفت على نطاق واسع بأنها «مقيدة لحرية الإعلام».
ولم يكد العالم ينتبه إلى خطورة تلك القوانين والسياسات على حرية الإعلام، حتى ضرب «كوفيد – 19» ضربته المؤلمة، وتلك الضربة بالذات أثمرت قدراً لا بأس به من الضغوط الجديدة، وهي ضغوط وجدت تسويغاً ملائماً في ظل شيوع مذهل للأخبار الكاذبة المتعلقة بالجائحة. ولم تتوقف الأخبار السيئة عند هذا الحد للأسف الشديد، فلم يكد العالم يبدأ في التقاط أنفاسه بعد زوال التهديد الخطير لجائحة «كوفيد – 19»، حتى اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي حرب لم تنحصر في رقعتها الجغرافية كما نعرف، لكن تداعياتها امتدت لتطول معظم بقاع العالم.
وبينما كانت التداعيات الاقتصادية المؤلمة أحد أكثر التحديات التي أفرزتها تلك الحرب قسوة وصعوبة، سيبرز تحدٍّ آخر يتعلق بالوسط المعلوماتي والإخباري المتصل بالحرب خصوصاً وبالصراع الروسي – الغربي عموماً.
وبسبب تلك الحرب، سيتم اتخاذ قرارات تنظيمية وسنّ قوانين في عديد البلدان بشأن حرية الصحافة والإعلام، وهي قرارات وقوانين ستعود بنا إلى أجواء ما جرى خلال اشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في منتصف القرن الفائت.
لقد أدت المخاوف الكبيرة من التصاعد المُطرد للمد اليميني والشعبوي من جانب، والشيوع الخطير للأخبار الزائفة بمواكبة جائحة «كوفيد – 19» من جانب ثانٍ، وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا من جانب ثالث، إلى تكثف الضغوط على حرية الصحافة والإعلام، وإيجاد الذرائع اللازمة لمزيد من القيود على الممارسات الإعلامية سواء على المنصات «التقليدية» أو «الجديدة».
وخلال الأسبوع الماضي فقط، ظهرت إشارتان؛ إحداهما من الغرب المتقدم، وثانيتهما من الشرق الذي يعاني، بشأن حرية الصحافة والإعلام، وفي كلتا الإشارتين ما يُفيد بجلاء أن تلك الحرية تواجه ضغوطاً متصاعدة، وأنها ما زالت قابلة لتلقي المزيد من الضربات.
فقد أعلنت المفوضية الأوروبية أنها بصدد إصدار قانون جديد «من أجل حماية الديمقراطيات في الاتحاد الأوروبي»، تعمد من خلاله إلى «تقوية استقلالية وسائل الإعلام الأوروبية وضمان حريتها»، في ظل ما عبّرت عنه منظمات دولية معنية بحرية الإعلام من مخاوف بشأن شيوع الممارسات المُقيدة للصحافة في أكثر من بلد أوروبي.
وأما الإشارة الثانية، فقد أتت من تونس، التي سنّت قانوناً جديداً، يوم الجمعة الفائت، يعاقب بالسجن، لمدة تصل إلى خمس سنوات، كل مَن ينشر أخباراً كاذبة عبر شبكة الاتصال وأنظمة المعلومات، في خطوة عدّها منتقدون بمنزلة «اعتداء على حرية التعبير».
لقد تحالف الصعود اليميني الشعبوي مع تداعيات «كوفيد – 19»، وتحديات الأزمة الأوكرانية، ضد مصالح حيوية في عالمنا، ومن بين أخطر نتائج هذا التحالف ما يتعلق بتعزيز الضغوط على حرية الصحافة والإعلام. والأمل أن ينجح العالم وحكوماته في انتهاج مقاربات رشيدة تحافظ على قدر ملائم من الحريات الصحافية من جهة، وترسي التدابير اللازمة للحد من الممارسات الإخبارية المُسيئة من جهة أخرى، من دون جور أو كيل بالمكاييل المتعددة.