السودان في مواجهة اختبار حروب الجيل الرابع

د . الفاتح الحسن المهدي *

ترتكب قيادات الجيش والقوي السياسية السودانية خطأ إن اعتقدت أن الحرب التي يواجهها السودان حرب بين طرفين او جنرالين ، كما تختزل بعض المجموعات السياسية الحرب في السودان ، ولكن بالواقع الميداني والزمني والحرب تدخل عامها الثاني وهي أكثر وضوحا بتغير صيغتها التي أخذت نمطا جديدا غير معهودا في المنطقةً والذي تم اختباره في ليبيا . سرعان ما أوقفته القوي الدولية التي تتشابك مصالحها وتتقاطع في الهلال النفطي الليبي .
ودارت حلبه الصراع في السودان مستهدفة بني الدولة من الداخل دون الحاجة الي تدخل خارجي وانتشار نوع جديد من القتال لا ساحات محددة له ، اندلعت الحرب في شهورها الأولي مستهدفة إخضاع المؤسسة العسكرية التي تحتكر العنف الي قوة شبه عسكريه يغلب عليها طابع المليشيا هي قوات الدعم السريع التي خططت لتحطيم قدرات المؤسسة العسكرية وإنهاكها بعد فشل عملية الإخضاع الأول ، والعمل علي إصابة جسد الدولة الهش بالشلل الجزئي الذي ما أن فرغ إندلعت حرب أخري ، فتآكلت بنية الدولة وتدهورت مركزيتها مع بروز حالات جديدة من الولاءات تقاسمها جنرالات الحرب والقوي السياسية المتشظية بعد التغيير السياسي الذي حدث في ظل ضعف التجانس القومي المعقد والذي شكل عائقا أمام كل محاولات التحولات السياسية والإجتماعية والإقتصادية فوضعت الدولة في قالب الهندسة الجديد ، وأصبحت حقلا خصبا للتجارب السريرية التي تجعل المواطن جنديا في جيش عدوه .
أنهت حرب الجيل الرابع في السودان إحتكار ألدولة للعنف والسياسات الموجهة تجاه مواطنيها مع العمل الممنهج لإفقادهم ثقتهم وإضعاف نفوذ الدولة بتفاقم الأزمات التي تلاحقها والإستقطاب الحاد بين مكوناتها الإثنية والجغرافية وسيولة النسق المجتمعي بقيادة حروب الوكالة من المجموعات المحلية ضد الدولة المركزية ومواردها. ويمثل الدعم السريع نموذجا مثاليا لذلك بدمويته وبشاعة ممارساته وسط صمت دولي محير مع مقارنته بما تم في حرب دارفور الأولي والتي حشدت كل الآلة الدولية ، مع كثافة في القرارات والجلسات والنداءات واللجان والمبعوثين والتظاهرات التي قادت الي إصطفاف الضمير العالمي الذي يشكل غيابا كأنما علي راسه الطير. فتضاءلت في هذه الحرب الفروقات بين المقاتلين والمدنيين وصعوبةً التفريق بين ميدان الحرب وميادين السياسة *وإستخدام الشعارات السياسية التي ترفع علي أسنة بنادق المليشيا ، والبحث عن الديمقراطية وسط أشلاء المدنين بدلا عن أصواتهم ، وأنينهم بدلا من أهازيجهم، بعد فشل محاولات المبعوثين الدوليين وبعثة الامم المتحدة ( اليوناتمس ) مع الأطقم المختلفة من البعثات التي عملت طويلا لهندسة مشروعها في السودان وجعله واقعا قسريا لفرض الأجندات الجديدة والتي وجدت مقاومة شرسة إضطرتها إلي حزم حقائبها في رحلة العودة والتي أعلنت بوضوح انطلاق الرصاصة الأولى للحرب والتي عبر عنها منسوبي مشروعهم الذي اختزل ( في عبارة اما الاتفاق الإطاري او الحرب ) . ومنذ إنطلاق الرصاصة الاولي للحرب كانت مقرات الجيش السوداني وأسلحته المركزية في الخرطوم تحت مرمي نيران قوات الدعم السريع ومواقعه الإستراتيجية ومراكز الاتصالات واجهزة الإعلام والمقار الحكومية المختلفة وتدمير منظومة الصناعات الدفاعية والتي استطاعت أن تحقق نجاحات كبيرة في مجال الصناعات العسكرية من أسلحة ومعدات وقدرات . مما اكسب الجيش السوداني أعداء جدد في أسواق السلاح المحتكرة للشركات الغربية والتي جعلت المنطقة والإقليم حصريا عليها فبدأت الحملات مبكرا علي مؤسسات التصنيع الحربي بتفكيك شركات الجيش وانتهت بالتدمير الكامل لجهد سنوات متطاول ، ولأن قوات الدعم السريع لا تمتلك لها قيادة عسكرية مؤهلة لهذا النمط من الحروب ، حيث يقودها ضباط أميين لم يتلقوا تعليما نظاميا ، إبتداء من قائدها ولذلك انتشرت الحرب في مساحات واسعة معتمدة علي شبكات جديدة من المقاتلين من المسلحين والحركات الإحتجاجية والمسلحة في المنطقة مثل مجموعات فاكت وحركة مظلوم التشاديتين ومجموعة السليكا في أفريقيا الاوسطي ومليشيات النوير في جنوب السودان . كما أنها أطلقت وحوش السجون من متعاطي المخدرات والمحجوزين في قضايا جنائية أخرى ، وحفزت الفزع القبلي بعد إستقطاب زعماء بعض القبائل والمجموعات الزبونية عبر حملات وأدوات التأثير الإجتماعي والنفسي الموجه الي المكونات المختلفة عبر الأزرع التي أنشأتها القوات من منظمات ومراكز ومؤسسات رأي عام منذ وقت مبكر، مما اكسبها مزايا غير متماثلة مع الجيش ، فاستطاعت تعويض الفارق في بنية تكوين قواتها وتأهيلها الذي يغلب عليها طابع المليشيا لا الجيش النظامي المنضبط . أدارت قوات الدعم السريع معاركها باللامركزية متجاوزة الأشكال الهرمية موظفة شبكات ممتدة من المناطق التي دخلتها ومستخدمة تكتيكات غير عسكرية في الانتشار غير المرشد مستهدفة زعزعة إستقرار المجتمعات بنشر الرعب وسط المجتمعات بالترويع والارهاب فاضطر ملايين المواطنين إلي النزوح حفاظا علي أرواحهم وأعراضهم . وارتكبت في حقهم الفظائع المتوحشة التي يندي لها الضمير الحي . ولكنها كانت معززة لأهداف الحرب الجديدة في صناعةً صورتها الذهنية التي تجعل الجميع يهربون أمامها ويتركون أرضهم من أجل مستوطنين جدد عززت حرب الدعم السريع بالوكالة من استراتيجيات الإعلام والمعلومات والمصادر المفتوحة وتشجيع ثقافة الغنائم والنهب دون الحاجة الي إمداد لقواتها او رواتب نظامية ، فانضم اليها آلاف من السابلة مما أدي إلي إفقار المجتمعات المحلية وتعقيد موقف الجيش في المناورة وتشكيل جبهات ضغط نفسي من المواطنين علي قيادة الجيش بحمايتهم في رقعة جغرافية تعجز كل جيوش المنطقة .
إن إستهداف التجمعات المدنيةً لا يهدف إلي تحقيق نصر عسكري ولكنه يأتي ضمن الحرب النفسية التي تعمل علي تقويض إستقرار الدولة وسلطاتها والطعن في شرعية الحكومة الضعيفة الغائبة وهز صورة قائد الجيش وإظهاره بمظهر العاجز عن حماية مواطنيه . دمرت الحرب البني التحتية وقام التمرد بنهب المصارف والمؤسسات والشركات والأسواق التجارية وخرب المصانع وحقول النفط وجعل اكبر تجمعاته في مصفاة النفط في الخرطوم منذ اليوم الاول وعطل مشروعات الإنتاج ومرافق الكهرباء والمياه والتلاعب بالعملة الوطنية ، وقام شركاؤه بتعطيل سلاسل الإمداد التي تزود الجيش بالمعدات ، وفرض عقوبات علي منظوماته الإ قتصادية وقياداتها مع عقوبات رمزية غير متكافئه علي شركات الدعم السريع التي تعمل في مجال التحويلات المالية او تجارة الذهب . وهي عقوبات لا تخلو من غرض ، متحاشية دول ومجموعات ظلت تدعم مشروع التمرد بالأسلحةً والمسيرات وتجنيد المقاتلين ، في مفارقة دولية واضحة ، حين فرض شركاء الدعم السريع حصارا غير معلنا علي السودان والجيش فجمدوا عضويته في الاتحاد الأفريقي ، واستقبلوا قائد المليشيا ببروتوكولات رسميه ، وتم احتواء جيران السودان بحوافز جديدة ومشروعات إقتصادية ، واستخدمت وسائل المنظمات الدولية في الحصار تارةً بالتحايل وتارة بالتشبيك والضغوط والارهاب ، وحين توصلت قيادة الجيش لاتفاق مع روسيا لمحطة التزود في البحر الأحمر إرتفعت الضغوط للتبرير للأوضاع الإنسانية وفتح مسارات التدخل الأجنبي عبر الحوار لتكرر سيناريو شريان الحياة الذي كان يعمل على إمداد التمرد في جنوب السودان تحت غطاء المساعدات الإنسانية . إختبار حرب الجيل الرابع في السودان ركز الفاعلون فيها علي ان تكون طويلة ومعقدة حسبما صرح به نافذون في قوي عظمي ليفقد الدولة السودانية القدرة علي إدارة شؤون مواطنيها ، ويفقدها ثقتهم مما يجعل قياداتها ترضخ بالقبول بالهندسة القادمة للمنطقة بعد المتغيرات الجديدة في مناطق الساحل الأفريقي ،
وهشاشة الداخل الاثيوبي وإهتزاز الدولة في جنوب السودان وغيابها في أفريقيا الوسطي ، ومهددات الأوضاع في تشاد فيصبح فرض الواقع الجديد الذي يحقق المصالح التي قامت من أجلها عمليات التغيير والحرب التي التي أفضت الي واقع أكثر هشاشة ومأساوية وفشلا ، وإرغامهمً علي القبول بالتشكيل الجديد وفق معادلات جديدة سيكون الدعم السريع وقيادته أول ضحاياها ، والخاسر الأكبر في حرب لم يكن إلا أداتها البشعة والتي تكون قد حققت تآكل إرادة الخصم بدلا عن إنتصاره أو هزيمته في حرب لم يكن مستعدا لها ولم يعرف جنرالاته طرقها.
*استاذ الفلسفة السياسة في الجامعات السودانية

نقلاً عن موقع الجزيرة


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب