ما كان يحب أن يرقد جسده على أرض غريبة، أو في بلاد الفرنجة بعيداً عن تراب الوطن السودان؛ لذلك أوصى الراحل المقيم والفنان الفخيم “عبد الكريم الكابلي” بدفنه في موطنه، مقرن النيلين، ونفذت الأسرة الوصية عندما توسد أمس تراب الوطن.
وشيعت جماهير غفيرة جثمان الموسيقار السوداني عبد الكريم الكابلي بالخرطوم التي وصل إليها، الجمعة، إلى مقابر الصبابي بمدينة الخرطوم بحري، بعد 330 يوما من وفاته بالولايات المتحدة في مطلع ديسمبر الماضي، بعد رحلة فنية استمرت 60 عاما، وكان نجل الكابلي عبد العزيز أبلغ عند وفاته في 3 ديسمبر 2021، أن والده في أوصى بدفنه في السودان.
وتوفي الكابلي الملقب بـ”عبقري الأغنية السودانية” عن عمر ناهز الـ 90 عاما بعد معاناة طويلة مع المرض، دخل على إثرها العناية المركزة لأكثر من 3 أشهر بإحدى مستشفيات ولاية ميتشيغان الأميركية، التي كان يقيم فيها مع بعض أفراد أسرته.
اليوم التالي – علي الطاهر
“فؤاده نغم صويدح غيداق .. قد ماج وأضطرم وضج بالأشواق” هو مقطع مكتظ بالجماليات والمعاني العميقة التي ترجمت إحساس شاعر يجيد نظم القوافي وترتيب بيوت الشعر والقصائد، ولكن جمال الصوت وكساء اللحن الذي فصله عليها الفنان القامة “عبد الكريم الكابلي” أظهر مفاتن أغنية (طائر الهوى) التي تعتبر نموذجاً للغالبية من أعماله الفنية التي أثرى بها المكتبة والوجدان السوداني، وترقد داخل ألبوم تجاربه (الكابلي) الضخمة أغنيات مرتبطة بشكل وثيق بالحب فهو بحق مثل طائر الهوى – حبيبة عمري – حبك للناس – يا ضنين الوعد – أراك عصي الدمع – أكاد لا أصدق – لماذا – نوم عيني – سكر – مروي – هاجر – ماريا – سعاد وغيرها من الأغنيات التي شارك في كتابة كلماتها بنفسه، وتلك التي منحها له شعراء كبار الذين تعاملوا مع الكابلي.
*كابلي .. وكابول
قد لا يربط الكثير من السودانيين اسم كابلي بمدينة أو منطقة معينة ولكن في واقع الأمر هناك علاقة وطيدة بين الكابلي الإسم وانتسابه إلى مدينة كابول الأفغانية حيث تقول السيرة الذاتية للفنان السوداني الموسوعة إن اسمه عبد الكريم عبدالعزيز محمد عبدالعزيز يوسف، والدته هي صفية الشريف أحمد محمد نور وهي من الأشراف، جاءوا إلى السودان من المغرب لنشر الإسلام.. ولد الكابلي بمدينة بورتسودان شرقي السودان عام 1932م، ويقول في حوار بصحيفة الشرق الأوسط : إن نشأته من جذور لعائلة أبيه تعود إلى مدينة كابول الأفغانية، ومن جذور تعود إلى جبل مرة في دارفور لعائلة أمه ويضيف كابلي في الحوار للصحيفة : إن جينات والدته تنحدر من فرع من قبيلة الفور وهم (الكنجارة) وأنه ولد في الشرق وعاش ردحاً من الزمن في الشمال ثم انتقل إلى العاصمة، ويرى أن هذا المزيج منحه الفرصة للاهتمام بالتراث السوداني ومحاولة تمثيله في مشروعه الفني الذي تجاوز نصف قرن ونيفاً..
وقال كابلي الذي كانت بدايته بالأناشيد المدرسية، إن الغناء موهبة فطرية حيث كان يقوم بتقليد كبار الفنانين مع مجموعة من زملائه وأصدقائه، وشجعه في ذلك أستاذه “ضرار صالح ضرار” الذي أسهم معه في نيل جائزة إلقاء الشعر، وعندما انتقل إلى المرحلة الوسطى في أم درمان كان يجيد العزف، وفي أوائل الستينيات ظهر نجم الفنان عبدالكريم الكابلي وعرفه أهل السودان وهو يكتب الشعر، ويلحن الأغانى، كما أظهر اهتماماً عميقاً بالتراث الشعبي، ورغم نجاحه إلا أن الكابلي واجه الكثير من العقبات في طريقه الفني خاصة أن الفنان في ذلك الزمن كان يحتل مرتبة متدنية في السلم الاجتماعي..
*اعتراف الموسيقيين بالكابلي..
ويتفق الموسيقيون أن الفنان عبد الكريم الكابلي يمتلك واحداً من أجمل الأصوات الغنائية التي أنجبتها بلادنا. ولا يمكن التأريخ لمسار الأغنية السودانية دون إفراد حيز كبير للدور الذي لعبه الكابلي في تجديد أصول الغناء، والتفريع لأنواعه. ليس ذلك فحسب، فالمجهود الفني للكابلي يتوازى مع دوره الكبير كمبدع مثابر حمل بعض أحلام اجتماعية، وسياسية، لأجيال عديدة، وعبر عنها من خلال مشروعه الغنائي الذي قام على أعمدة من المعارف العامة، والموسيقية على وجه التحديد. كما يشير بعض الموسيقيين إلى أن الأسلوب السهل الممتنع الذي عرف به الكابلي في التلحين يتناسب مع طبيعة تعامله السهل مع واقعه الحياتي، وتواضعه الإنساني الجَم، ورهافة إحساسه.
الواضح أن الكابلي لم يلجأ لحشو لَحْنه بالمقدمات الموسيقية الكثيفة حتى يعطي المتلقي انطباعاً بتصنيع مفرداته الموسيقية، كما كان هذا الأسلوب هو دأب كثير من الملحنين الجدد، والذين تغيب السلاسة في موازيرهم وجملهم الموسيقية بدعوى التحديث للميلودية السودانية الواضحة والسلسة في تموجاتها النغمية، صعوداً، وهبوطاً..
ويقول الأستاذ الراحل السر أحمد قدور “إن للكابلي دوراً كبيراً في إعادة القصيدة الفصحى إلى الغناء السوداني في فترة الستينيات الماضية وما بعدها. لو أراد أحد الدارسين لشعر الغناء السوداني وتطوره منذ نهاية الخمسينات، فإنه سيضع الشاعر عبد الكريم الكابلي مع شعراء المقدمة في هذه الفترة. لا لأن الكابلي كتب أغنيات تغنى بها هو وتغنى بها سواه، ولكن لأن الكابلي الشاعر صاحب أسلوب خاص في التناول. وإذا كان بعض المطربين قد سبقوه في كتابة أغنيات لأنفسهم مثل الكاشف عندما ألف لنفسه أغنية (الحبيب) والعاقب محمد حسن عندما كتب (العودة لمتين) وغيرهما، فكانت محاولاتهم مجرد حالات متفرقة ونادرة، فالأمر عند الكابلي يختلف تمام الاختلاف، فهو منذ البداية أراد أن يعبر عن نفسه بأسلوب آخر. وحتى عندما تغنى بشعر الآخرين فهو يبحث عن هذا الأسلوب الآخر. وهو صاحب تعبير متفرد وجديد”..
*نصوص منوعة..
ودون الكاتب الكبير “صلاح شعيب” : ذا جاز التأمل في النصوص التي غناها الكابلي فإنها تنوعت برغم أن خيطاً وجدانياً واحداً يربط بينها. فالكابلي كتب وغنى شعر: الأغنية التقليدية و”المسادير” والتراث، الشعر العربي القديم والحداثة، شعر سوداني فصيح وشعر المديح. ولعل كل هذه النماذج التي عمق بها الكابلي مشروعه الغنائي تولدت من بيئة شعر الغناء السوداني إجمالاً. ولا شك أن هناك إهمالاً في تصنيف وحصر هذه النماذج الشعرية. ولا ندري إلى أي مدىً يمكن أن يساعدنا باحث حريص على تاريخ الغناء لأداء دور التصنيف والأرْشَفة في زمن التوثيق الرقمي السهل الإنجاز.
والحقيقة الثانية هي أن هذا الكم الشامل من المواضيع التي شدا بها الكابلي تتنوع لترصد التطور الشعري لمبدعينا في هذا المجال. وهذا التنوع نفسه يرتبط بتنوع قضايا الغناء السوداني تاريخياً. ولئن كان مبدعنا قد غنى لتمدد قيم الحرية، والسلام، والحب، والكرم، والشهامة، والمروءة، وجمال البيئة، والوجوه، والعيون، إلخ، فما أحوجنا إلى سَفَرٍ مُحْكَم لإبانة كل هذه القيم بمفردها من خلال علاقتها بحراك المجتمع. وكذا للوقوف على قدرة شعراء الأغنية على التعبير عن همومهم الوجودية، والنفسية، والوطنية.
إن روح الشاعرية التي تقمصت المبدع الكابلي منذ بدء علاقته بالإبداع، وتوازت مع جمالِ صوته ذي الإمكانات الهائلة ساعدته على تخيّر الأشعار الجيدة التي غناها للشعراء. ولقد أشاد الموسيقار يوسف الموصلي بهذا الصوت، وقال: “أنا أحب صوت الكابلي جداً، خصوصاً عندما يتجه إلى القرار ـ المنطقة الغليظة ـ في صوته، وتمنيت لو أن الله منحني هذه الإمكانية في صوته، وهو من أمْيَز مطربينا في منطقة القرار”.
وربما لعب هذا الاختيار للشعر، من جانب الكابلي، دوراً ثقافياً في تنمية ذوق المتلقي فنياً ومعرفياً، لكونه اختار من عيون الشعر العربي القديم وشعر الحداثة، والمسادير، وعَرَّف بالعديد من النصوص التي ظلت مهملة، ما كان لها أن تُعْرَف وتؤرَّخ لولا أنه عالجها بألحانه الجميلة.
وباعتبار أن كل قصيدة عند الكابلي كانت تخضع لمنهج تلحين يتناسب معها، فقد توفق الكابلي إلى حد كبير في كساء القصيدة بالإيقاعات والموتيفات المناسبة للمعاني الداخلية للقصيدة. وصار من السهل تميز أسلوب التلحين من خلال المقدمات واللزمات الموسيقية.
يقول الأديب والسفير الراحل عبد الهادي الصديق: “إن الكابلي يحبه أهل السودان لأنه عاد بهم غائصاً في عمق التراث الشعبي والقومي.. تراث بنونة وشغبة وبت مسيمس، ولم يقدم ذلك مغنياً وكفى، بل قدم المحاضرة تلو المحاضرة، والندوة تلو الأخرى في دُور الثقافة والمنتديات محلياً وعربياً وأجنبياً”.
ويضيف الصديق: “إن مكان الكابلي في حركة الثقافة السودانية كبير ومتسع، كاتباً، ومؤلفاً موسيقياً، ومغنياً، ووطنياً محباً لبلاده كما أحبها خليل فرح وهو يصدح كما الكابلي من بعده”.
والحقيقة التي لا جدال حولها أن الأستاذ عبد الكريم الكابلي ظل لنصف قرن ناشطاً ثقافياً، وفنياً واجتماعياً، وأدبياً، ودبلوماسياً. أدواته القلم، والقيثارة، والصوت الطروب، والتعبير الحسن للأفكار التي آمن بها، وظل بلا كلل أو ملل عاكفاً على نشرها في ربوع بلاده، وأينما حل خارجها.
ومهما كان جهده الأبرز طيلة هذه الفترة قد تمثل كمغنٍّ ما برح يشنف الآذان برقة أشعاره وصواب حنجرته في ضخ اللحن الشفيف، فإن أدواره الأخرى في الحياة التي عشق رشقها بالأفعال النيرة، تظل مراقبةً عن كثب في الصوالين الأدبية، والمؤتمرات، والمنتديات الثقافية المحلية، والإقليمية، والعالمية. وكذلك في الجامعات ودور الفن، وفي منابر النشر التي زَفَّت إنتاجه الأدبي والمعرفي. وفي الأجهزة الإعلامية التي أجرت معه مئات المقابلات حول ما تعلق بإبداعه، واهتماماته المعرفية التي نذر عمره لها. كل هذا الرصيد الذي نماه منذ منتصف القرن الماضي شكل موئلاً ثقافياً، ما أقل من أن يجد التأريخ، ليس فقط تكريماً له، وإنما أيضاً لأجل الاستلهام منه، ومعرفة الأسرار التي قادته لأن يواصل طوال هذه المدة في هذا النشاط المجتمعي، غارساً مفردات الوحدة، والحب، والسلام، والجمال، في طول وعرض بلاده التي جاب نواحيها، وأخلص لها.
وفي هذا الإطار يقول الأستاذ طلحة جبريل: “إن الكابلي كان وما يزال نموذجاً للفنان المثقف، وأتذكر حديثاً بيني وبين الفنان المغربي عبد الوهاب الدكالي، قلت له إن لدينا فناناً مثقفاً لا مثيل له في العالم العربي، وحين سمع الدكالي ثلاثاً من أغاني كابلي، وهي (أراك عصي الدمع) التي لحنها قبل أم كلثوم، وقصيدة ليزيد بن معاوية (نالت على يدها ما لم تنله يدي) وأغنية (أجمل من لؤلؤة بَضَّة صيدت من شط البحرين)، قال الدكالي: بالفعل هذا فنان مثقف، واستثنائي”.
ويضيف جبريل: “الكابلي فنان موسوعي، وهو الفنان السوداني الوحيد الذي ربطتني به علاقة شخصية، وسعدت بتقديمه في زيارة له لأمريكا في محاضرة حول أغاني التراث، وكان ممتعاً ومفيداً كدأبه”.
*وفاء.. وحياة خصبة
وإذا كان لا مناص من رصد جماليات تجارب المبدع عبد الكريم الكابلي في جوانبها المعرفية، فإن الضرورة تقتضي أن تتعدد المحاولات، وتتنوع المناهج للغوص فيها، خصوصاً أن تقييم الإبداع والتأريخ له ينبغي ألا يقتصر على جهد فرد واحد. وما أحوجنا إلى ورش عمل متعددة لتناول الحياة الخصيبة لمبدعنا لأجل أن تتنوع خلفيات النظر، والتقييم إليه، تعديداً لمناهج النقد حوله، وإغناءً للحوار حول إبداعه. وذلك ما يثري التأريخ الفني في بلادنا، ويتيح للمتلقين أنماطاً من التفكير حول المبدع الشامل.
لقد تميز الكابلي بالوفاء لأصدقائه وأساتذته، ويقول الأستاذ معاوية حسن يسن، الصحافي والناقد المعروف: “الوفاء من خصال الأخ الأستاذ عبد الكريم عبد العزيز الكابلي التي لا يعرفها كثيرون. فهو وفِيٌّ للغاية لأصدقائه. وهي خصلة حميدة تضاف إلى شمائله التي جعلت منه فناناً، وشاعراً عبقرياً. ولئن كتب في صحائف تاريخه ما قام به في سبيل توثيق وإشاعة الغناء التراثي والشعر الشعبي، وتوفيره اللحمة اللازمة لربط أجيال من السودانيين بكلمتهم العامية التي كادت المدنية أن تطمرها، وأسقط من تلك الصحائف كسبه في صنع الغناء المعاصر، وشعره الغنائي الثر، وقصائده الفصيحة الحسنة، لكفاه”.
ويشير يسن إلى “أن من وفاء الكابلي لأصدقائه وأحبابه، وهم كثر، في كل مكان في السودان وخارج السودان، أنه ما إن يأتي عيد الفطر أو الأضحية إلا وبادر بإرسال بطاقة معايدة. ولا يذهب إلى عاصمة يفتتن بها، خصوصاً في أوروبا الغربية، إلا وتذكر أصدقاءه وبعث إليهم منها بطاقات التحية والذكرى. ولعل السودانيين قاطبة عرفوا وفاء الكابلي أخيراً حين أصدر الشريط الصوتي الأول في سلسلة (أمير العود)، الذي يتغنى فيه بست من درر مطربنا الكبير الراحل النقيب حسن عطية، أو (وحائده) كما تعود، عليه رحمة الله، أن يقول. وليس من شك في أن حسن عطية أستاذ للكابلي. فقد افتتن الكابلي بصوته وأغنياته منذ أن التقطتها أذناه من على أثير الإذاعة السودانية، وهو بعدُ صبي صغير في القضارف وبورتسودان. وحين بدأ الكابلي حياته الفنية، كان مؤدياً لأغنيات حسن عطية والتاج مصطفى وعبد الدافع عثمان وأحمد المصطفى. ومع أنه أدرك هؤلاء الرواد وصار علماً في دنيا الغناء مثلهم، إلا أنه ظل يتعامل معهم مثلما يتعامل التلميذ مع أستاذه”.
يشير البعض إلى غياب النقد الموسيقي، برغم أهميته في تطوير الأساليب الفنية للمشتغلين في التأليف الغنائي، وإبانة مواضعها وسط تيارات التحديث الغنائي، وشحذ ذهن المتلقي بالمعارف الموسيقية، فإن ذلك الغياب هو غياب من يتخصصون فيه كعِلم قائم بذاته، يتراكم بتراكم فصوله. سوى أن ما يكفي اجتهاد الكابلي في هذا الضرب من الإبداع أنه أصبح يأخذ ملامح مدرسية غنائية من خلالها يستطيع أن يستخرج النقاد منهجاً لمؤلفاته الغنائية، وبه يجوز مقاربته مع مناهج لمبدعين سبقوه في التأليف الغنائي، وكذلك الذين جايلوه أو أتوا بعده.
*مواقف وإنجازات
أثرى الفنان عبد الكريم الكابلي الساحة السودانية والأقليمية بأعمال فنية غنية من ثروة أغانيه الضخمة،وخلال مسيرته التي تجاوزت 55عاماً حقق العديد من الإنجازات حيث حصد مجموعة من الجوائز كما أصبح سفير النوايا الحسنه ثلاث مرات على التوالي، ومن المواقف التي تحفظ للفنان السوداني الكبير عندما تغني (آسيا و إفريقيأ) عام 1960 في حضور رؤساء دول عدم الانحياز (باندوق) حيث صعد الكابلي المسرح وغنى بشكل رائع تجاوب معه الجميع وعندما جاء مقطع
مصر يا أم جمال.
يا أم صابر..
قام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وصعد المسرح وقبل جبين الفنان عبد الكريم الكابلي في لقطة لن ينساها التاريخ..
*شاعر وملحن..
اعترف الخبراء والنقاد الفنيون أن الفنان عبدالكريم الكابلي يعد واحداً من أجمل الأصوات الغنائية في السودان وله منهج خاص ومتميز، ولعب دوراً في تجديد أصول الغناء وهو يعد شخصاً مؤثراً وله قيمة كبيرة بيد أن يجيد كل أنواع الغناء العاطفي، التراثي و الوطني وتغنى بعدد كبير منها ذاع صيتها خارج حدود البلاد، وبالإضافة إلى صوته الجميل وأدائه المتميز، فهو شاعر يجيد نظم القصيد وقرض الشعر كما أن له القدرة على تفصيل اللحن للأغاني وإبراز مفاتنها أمام الجمهور..
وكتب الكابلي قصائد وأغاني لنفسه ولزملائه الفنانين ومن أشهر هذه الأعمال الغنائية التي كتبها لنفسه زمان الناس – مرايا – مشاعر، كما كتب حواء وآدم، مرسال الشوق للفنان أبو عركي البخيت، ويا زاهية للفنان أبو داؤود، ولحن الكابلي الغالبية من أعماله الفنية وإلى بعض الفنانين زملائه..
وتعد قصيدة المولد للشاعر محمد المهدي المجذوب من أفضل الأعمال الصوفية التي نفذها الكابلي باحترافية عالية حتى بات عملاً نموذجياً خالداً تتناقله الأجيال بسبب كلماتها الجميلة ولحنها الرائع وأداء الكابلي البديع، وإن كانت ليلة المولد خطفت النجومية في المديح، فإن (سعاد) رائعة الشاعر الدوش سرقت الأضواء بسبب أداء الكابلي وقدرته التلحينية التي جسدت الأغنية إلى قصة عاطفية وطنية رسخت في ذهن كل من استمع لها..
*غناء بالفصحى والدارجي
مثلما برع الكابلي في كتابة الشعر والتلحين، أبدع كثيراً في تناول الأغاني بالفصحى والدارجي وهما طرفا نقيض لا يستطيع الإنسان جمعهما في طرف واحد إلا فنان له إمكانيات عالية وقدرات مذهلة مثل الكابلي الذي تغنى بعدد من الأغنيات التراثية الشعبية مثل فرتيقة أم لبوس – حسن صاقعة النجم – خال فاطمة – علي – سعاد وماريا، وتغنى أيضاً بالفصحى “نالت على يدها” للشاعر يزيد بن معاوية، “شط البحرين” للشاعر علي شريحة ” أراك عصي الدمع” للشاعر أبو فراس الحمداني ” شذى زهر للعقاد” “صداح” للشاعر أحمد شوقي ” الجندول” للشاعر المصري علي محمود طه “أراك ذلك العذب” للمتنبئ..
*شعراء.. وإلبومات
رغم أن عبدالكريم الكابلي يغني لشعراء محليين وأجانب، ويغني بالفصحى والدارجي، كما له القدرة في كتابة الشعر إلا أنه تعامل مع شعراء أفذاذ رفدوه بعدد من الأغنيات الناجحة التي أسهمت بشكل كبير في شهرته الذائعة، ومن بين هؤلاء الشعراء الفحول يظهر توفيق صالح جبريل ، صديق مدثر الذي قدم له الأغنية الجميلة “ضنين الوعد”، وهناك أيضاً الشاعر القامة الحسين الحسن الذي أعطاه “حبيبة عمري “، وشقيقه تاج السر الحسن ، محمد سعيد العباسي، إلى جانب الشاعر الرقم محمد مفتاح الفيتوري بجانب الشاعر الأديب البارع محمد المهدي المجذوب الذي منحه “ليلة المولد”.
ويمتلك الكابلي كماً هائلاً من الأغنيات المشهورة والناجحة والتي تتواجد حالياً في مكتبة الأغاني السودانية، وخلال مسيرته الطويلة أنتج أكثر من ستة ألبومات غنائية منها “زمان الناس” ويحتوي على 6 أغنيات – إلبوم “حفل القاعة” ويحتوي على 4 أغنيات – إلبوم “لماذا” ويضم الشريط 8 أغاني – إلبوم “كابلي أثيوبيا” ويضم 6 أغنيات – “في عز الليل” ويحوي بداخله 6 أغنيات – أجمل أغاني كابلي ويشمل 56 أغنية خاصة بالفنان، وهناك أيضاً شريط مشترك مع البلابل الذي حقق نجاحاً نهاية حقبة الثمانينيات..
*بعيداً عن الفن
نشأ الكابلي وشب في مرتع صباه بشرق السودان حيث تنقل ما بين مدن بورتسودان، سواكن، طوكر، القلابات، القضارف وكسلا. تلقى دراسته بخلوة الشيخ الشريف الهادي والمرحلة الأولية والوسطى بمدينة بورتسودان والمرحلة الثانوية بمدينة أم درمان كلية التجارة الصغرى ( سنتان ) وبعد أن تخرج منها التحق بالمصلحة القضائيه بالخرطوم وتعين في وظيفة مفتش إداري بإدارة المحاكم وذلك في العام 1951 م وعمل بها لمدة أربعة سنوات ثم تم نقله إلى مدينة مروي ومكث بها لمدة ثلاث سنوات إلى أن تم نقله مرة أخرى إلى مدينة الخرطوم واستمر بها حتى وصل الى درجة كبير مفتشي إدارة المحاكم في العام 1977 م، وبعد ذلك هاجر إلى المملكة العربية السعودية ليتعاقد مع إحدى المؤسسات السعودية مترجماً في مدينة الرياض في العام 1978 م ولم تستمر غربته طويلاً حيث عاد الى السودان في العام 1981 م ليواصل رحلته الإبداعية مرة أخرى، وبعدها ظل بالسودان يواصل عطاءه الفني والإبداعي قبل أن يقرر السفر إلى الولايات المتحدة ليستقرهناك بصفة نهائية تاركاً ثروة غنائية طائلة في الخرطوم، ليعود إليها محمولاً على نعش.