الشاعر عبد الإله زمراوي لـ(اليوم التالي): الشعر سنام الآداب الإنسانية، وترياق شافٍ ضدّ ظلم الحكام..

نهلت من معين اللغتين النوبية والعربية، فجاءت تلك الكثافة والرؤى..
محمد وردي الذي عرفني بالشاعر العراقي مظفر النواب وحفظت أشعاره الرائعة..
شاعرنا عبد الإله زمراوي قادم من عمق الحضارة وعبق التاريخ، فامتزج شموخ الماضي مع جذوة الحاضر ولد بكرمة عاصمة الكوشيين، قانوني سوداني وقاضٍ سابق، هاجر للولايات المتحدة في يناير 1990 ويستقر الآن بالدوحة القطرية.. صدرت له حتى الآن ست من المجموعات الشعرية هي: (سيوف الجفون الصادرة عن مطابع الجزيرة بود مدني (1986)، صهوة العمل الشقي عن دار عزة / مدبولي (2007)، أغنيات الليل عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق (2008)، طبل الهوى عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق (2010)، دمعتان على الوطن عن دار شرقيات القاهرة (2012)، والمجموعة السادسة؛ القمر الحزين الصادرة عن دار الوراق بالدوحة (2013))، كما قامت دار شرقيات بالقاهرة بإعادة طباعة ديوان أغنيات الليل طبعة ثانية.
يقول عنه الشاعر والناقد محمد المكي إبراهيم الذي قدمه في ثلاثة دواوين شعرية، إن زمراوي استطاع في كثير من قصائده أن يتجاوز القصيدة التفعيلية بصور أكثر فرادة وبتنويعات موسيقية أكثر طرباً وإبهاراً، كما أنه يتمتع بذلك الوتر الوطني الرزان الذي ينقر عليه في معظم نصوص قصائده، وهو وتر شديد الفعالية. وختم بقوله إنه شاعر جدير بالقراءة كما هو جدير بالاستقرار في ذاكرة القارئ.
أجرينا معه هذا الحوار حول تجربته..
اليوم التالي: محمد إسماعيل
* أصدرت أكثر من مجموعة شعرية، وهذا يدل على عراقة علاقتكم بالشعر، أرجو أن تتحدث قليلاً عن مولدك، نشأتك، وكيف بدأت الكتابة؟ ومتى؟ وما الصعوبات والمعوقات التي واجهتك في البدايات؟
– نعم أصدرت حتى الآن ستاً من المجموعات الشعرية. ولدت بكرمة عاصمة الكوشيين وترعرعت بين نخيلها وشربت من نيلها وتعفرت قدماي بطين جروفها، وزرعت الفول والقمح والبرسيم في حقل أمي وأبي، ولا يزال التصاقي بالأرض هناك ماثلاً، إن لم يكن بالجسد فبالروح الهائمة دوماً على تلك الأرض المقدسة.. بدأت الكتابة مبكراً منذ أن التحقت بالمرحلة الثانوية، وكانت جُلّها عبارة عن خواطر لقروي يكتب عن الطبيعة الآسرة، كما يكتب للوطن الصغير ويكتب عن أمه وجدته أحياناً. كانت الصعوبات كثيرة، إلا أن أبرزها هو الحياء الشديد مما أكتب. كنت أدس ما أكتبه بعيداً عن الناس حتى لا يراه أحد منهم، لذلك اندهش كثيرون من أصدقاء الطفولة عندما قرأوا لي، ليس اندهاشًا من مضمون القصيدة، ولكن لعلمهم المسبق بنوبيتي القُحة وعجمة لساني.
* أنت تميل للشعر الحرّ، ما سر هذا الميول؟
– قدرٌ أنني مِلتُ للشعر الحرّ دون غيره، نسبة لعلاقتي الوثيقة الطويلة مع الراحل المقيم الأستاذ محمد وردي؛ الذي عرفني بالشاعر العراقي مظفر النواب وحفظت أشعاره الرائعة، لا سيما تلك الواردة في وتريات ليلية، ثُمّ إنني قرأت في عهد باكر من عمري للشعراء السودانيين الذين أثروا الشعر العربي ثراءً كبيراً، أمثال الشعراء العظام؛ التيجاني يوسف بشير، مروراً بأبناء منطقتنا، حمزة الملك طمبل ومحي الدين فارس والجيلي عبد الرحمن وكذلك الشاعر الضخم محمد المكي إبراهيم والمتفرد ذي البحر القديم مصطفى سند وغيرهم من العظماء.. وهكذا تكونت لدي ذخيرة من محبة خاصة لهم، وعامة لأشعارهم الباذخة وتمنيت في وقت مبكر أن أقتفي آثارهم، على أن أبتدع لغة جديدة لي ورؤى مغايرة، ولا أزال محاولاً في الطريق الطويل، فليوفقني الله.
* كيف تصف لنا لحظة الخلق الشعري وولادة القصيدة؟
– سُئلت مراراً وتكراراً هذا السؤال، ودوماً أقول وأرده بأن ولادة القصيدة في تجربتي الشعرية المتواضعة لا زمان لها ولا مكان، فقد تأتي القصيدة في أحوال تكون فيها كالقدر المسطر، كالسيف البتار أو كالجرف الهاوي أو كقطعة حلوى تستلذ بها أو كنار تتلظى تحرق فيها الأوراق، ورقة تلو أخرى حتى تستوي القصيدة. وأنا أسميها أحوال، لأنها تشبه إلى حدّ كبير أحوال سادتنا الصوفية حفظهم الله. وقد تكون هذه الولادة صباحاً أو مساءً، في حلكة الليل أو في النهار المبصر. وقد لا تجدني ميالاً للفكرة الهلامية التي تدور في أذهان بعض الناس بأن الشاعر أو الأديب مخلوق أسطوري له عالم مغاير عن بقية خلق الله. الشاعر إنسان أوتي حظاً من خيال وجزالة في اللغة الشاعرية ولا يتحين الفرص – كما يُشاع – ريثما تتنزل عليه قبيلة من الجان فتصرعه ليكتب نصاً شعرياً.
*هل أنت راضٍ عن كل ما قدمته من إبداع؟
– تماماً وفي غاية الرضا ولله الحمد من قبل ومن بعد، فأنا نوبي أكتب بلغة ثانية ليست لغة أمي، واستطعتُ أن أخرج شيئاً للناس، قرأوه وفهموه، ثُمّ إنني أيضاً بدأت محباً للشعر، عاشقاً شغوفاً به، لذلك تجدني مستمتعاً جداً عندما أعود لأقرأ ما كتبته بين الفنية والأخرى، وكذلك الحال ما ينتابني من النشوة عندما أقرأ لجمهوري المحب وأصدقائي وأهلي أشعاري.
* في خضم انفتاح الكتابات الحداثية على بعضها، أيُّ حدود فاصلة بين السرد والشعر؟
– لكلٍ محبوه ومعجبوه. وهنالك بالطبع حدود فاصلة كتلك التي بين الدول، بين فنّ صناعة السرد وفنّ صناعة الشعر، تتمثل في الكثافة والموسيقى والرؤى إلى غير ذلك، فالشعر تحكمه ضوابط صارمة، وإلا صار نثراً، والسرد أيضاً له قواعده. أما الذي يجمعهما فهو الإبداع الخارج عن المألوف وجزالة وجدة الثقة.
* كيف لمست اقتناع القراء بكتاباتك وتقبلهم لرؤيتك الشعرية؟
– عندما بدأت النشر – أخي الكريم – في صيف 1986، أهديتُ ديواني الأول لبعض الأصدقاء، وكان ذلك في الصباح الباكر، ثُمّ إنني زرتهم جميعاً في الثلث الأخير من الليل لأستعيد كل النسخ وأحرقها. لقد كنتُ أعمل قاضياً في مدينة ودّ مدني وقتلني الحياء أن أنشر شعراً عاطفياً يتحدث عن رمش المحبوبة وخصرها، وأنا القروي الصارم، وعندما عدتُ للنشر بعد قرابة عشرين عامًا، لم يعد يهمني كثيراً تقبل القراء، قدر ما كان يهمني أن تخرج أعمالي للنور، ليقرأها الناس أولاً، ثُمّ يقرروا فيما بعد ما يشاءون، فالعمر لن يبقى على حاله، والشعر لا يفنى، فلندع التاريخ يقرر، إنني أراهن عليه.
* كيف تكتب القصيدة، فكرة، أم وحي، إلهام، أم تجربة؟
– كما أجبتُ سابقاً ليست لدي طقوس خاصة للكتابة. قد يأتي الوحي راكضاً تسبقه الفكرة، ثُمّ تدخل التجربة الذاتية وتجارب الآخرين، ويكون فيها أيضاً بعض الذكريات المختبئة في الذاكرة الفردية.
* كيف تُقيّم علاقة الشاعر والمتلقي في ظل ثورة الاتصالات؟
– من أروع لطف الله بعباده أن أزال الحدود الوهمية الفاصلة بين الكاتب والمتلقي، فكم من نصٍّ كتبته على الهواء على صفحات التواصل الاجتماعي، واختصر بين الناس، واستوى على سوقه، حتى خرج في ديوان شعري. فعلى سبيل المثال كتبت أغلب نصوص ديواني الأخير (القمر الحزين) على الهواء مباشرة نصاً بنص، وكانت تجربة رائعة وفريدة، وما أمتعها عندما يكون التفاعل فورياً، حتى أنني لجأت للأصدقاء بالفيس بوك في اختيار عنوان ديوان “دمعتان على الوطن” وكذلك “القمر الحزين”.
* تتمتع قصائدك بالعديد من المزايا، وفي مقدمتها استخدامك الملحوظ للوتر الوطني الرنان الذي يتميز به في معظم قصائدك، ما الذي يمثله الوطن بالنسبة لك؟
– الوطن هو كل شيء عندي، وليس زيفاً ما أقوله أخي الكريم، تجد الوطن مختبئاً حتى بين نصوصي العاطفية متى تأملت النصوص، أما النصوص الأخرى فهي وطنية غنائية وثورية ضدّ كل الظالمين في كل عصر، ومُصرٌ دون أن أكون مباشراً حتى تكون مستقرة في أضابير التاريخ، يقرأها الناس ويظنون أنها كُتبت حالاً، الوطن هو الذي دعاني للكتابة سراً وجهراً ولولاه لما عرفني أحد.
* اهتم النقاد بتجربتك، هل تعتقد أنهم لامسوا أسرارها من الداخل؟
– صدقني لو قلت لك إنني لا أعرف ناقداً واحداً تناول تجربتي الشعرية بالعمق اللازم الذي كنت أنشده، لا أزأل أتطلع إلى دراسات نقدية جادة في وطن كبير أنجب الأفذاذ من النقاد الصارمين الجادين، تتناول تجارب المهاجرين من أمثالي والمقيمين بالخارج، الذين لم يجدوا حظاً من الانتشار في السودان، ليس لقلة مردودهم الشعري، وإنما للتجاهل التام في وسائل الإعلام والصحف، أو ربما لبعد المسافات بين الداخل والخارج، مع أنني أنجز هذا اللقاء معك وأنا أستخدم ما حبتنا بها التكنولوجيا من أدوات للتواصل.
* الشعر كحالة أدبية لا يزال قادراً على إثارة الناس وجذب اهتمامهم؟
– لا أزال مؤمنًا بأن الشعر هو سنام الآداب الإنسانية، فهو حافز قوي للحق والخير والجمال وترياق شافٍ ضدّ ظلم الحكام وجورهم. كما أنه شفاء تام من أمراض اليأس والقنوط بتحفيزه الجماهير للثورة. لك أن تتصور أن بيتًا واحداً فقط من الشعر للشاعر الخالد “الشابيّ ” تداولته الشعوب العربية في ثورات ربيعها العربي الراهن. كما أن الشعر الجيد ذو المعاني السامية “حالة خاصة وفريدة”، تصيب المتلقي بسحره وعذوبة موسيقاه وهو أكثر انتشاراً بين الجماهير لسهولة حفظه في الذاكرة الجمْعية من الرواية. هذا لا ينفي مطلقاً دور الرواية والموسيقى والتشكيل وكل ضروب الأدب في إثارة الناس وجذب اهتمامهم.
* تمتاز قصائدك بالتكثيف الشعري، كيف استطعت أن تطوع اللغة لصالح القصيدة وأعرف أنك نوبي قُحّ؟
– كما ذكرت سابقاً جئت للغة العربية من أحضان لغة قديمة جداً تمتاز بالشعر الغنائي وأشعار الرثاء، وكذا الفخر، فكان لزامًا علي أن أنهل من معين اللغتين النوبية والعربية، فجاءت تلك الكثافة، الرؤى أغلبها من واقع البيئة النوبية بلغة عربية غير ذات عوج.
* حين حملت حقائبك وغادرت إلى أمريكا، هل كنت تتوقع أن تمتد غربتك؟
– لم يدر بخلدي يوماً واحداً أن يكون لي أبناء يُولدون في واشنطن، أو في سانت كاثرين بكندا. وهكذا مرت السنين تباعاً ولا ندري أشر أريد بنا أم خير؟ ولكن أعلم أن ذلك من إرادة الله العليم الحكيم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
* هل تمكن النقاد من قراءة قصائد الغربة والمنفى وأنصفوها بمساحة النقد؟
– أيُّ نقاد تعني أخي الكريم؟ أنا كما قلتُ سابقاً لم أجد أيَّ ناقد في السنوات العشر الأخيرة تناول بالنقد لنصوصي أو نصوص غيري، دلني بالله عليك على هؤلاء النقاد حتى أدفع لهم بمنتوجي المتواضع ومنتوج بعض الأصدقاء الذين يبدعون في صمت في منافي العالم.
* برزت في الفترة الأخيرة ظاهرة كتابة شعراء المنافي ونشر دواوين شعرية بلغة بلدان الاغتراب، هل أنت مع هذه الظاهرة؟
– ولم لا؟، فالشعر نفسه له نفس التقديس الذي عند العرب في تلك البلدان، وقد تعرفت على شعراء صينيين يكتبون باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة، وشعراء من أمريكا اللاتينية أيضاً يكتبون مثلهم، ولكن التفرد يبقى في خيالات ورؤى الشاعر التي يستطيع نقلها من بيئته التي نشأ فيها، فما لا يُدهش الناس في السودان قد يُدهش القراء في كندا أو أمريكا أو أستراليا، انظر كيف وظَّف الراحل المقيم الطيب صالح شخوص رواياته حتى غدا الزين معروفاً لدى الغرب كشخص خرافي ومعه الشيخ العارف الحنين، كذلك فإن ابن الرومي مثلاً هو أكثر الشعراء شعبية في أمريكا وقد تُرجمت أشعاره للغات كثيرة.