جائزة دال للصحافة.. تجربة ليست شخصية ١-٢

طروس

حرصت على الترشح للجائزة لأنني كنت أريد أن اختبر الجائزة لا أن تختبرني! أردت أن امتحن مصداقيتها خصوصاُ وأنني مصنف في الجانب غير الموالي للمنشأة الرأسمالية الراعية التي تستثمر في تيار اليسار

المنشآت الرأسمالية كما الطائفية ضيقة الصدر وقليلة الوقت وزاهدة في الأتباع لذلك فإنها تضيق بالاستقلاليين وتصنفهم تلقائياً في سجل الأعداء، وطبيعتها تحثها على تصنيف الأتباع عوضاُ عن اهدار الوقت في جذب الخصوم والمستقلين

لقد نجحت وفق المعايير التي طرحتها اللجنة وفزت بالجائزة، فهل نجحت الجائزة كمؤسسة غير مستقلة وبالتالي المنشأة التي ترعاها في الاختبار الذي وضعتها فيه؟ هذا ما نحاول قوله في هذا المقال

الفضائيات العربية الدعائية -من فرط محبة مموليها لنا – تدعو ليل نهار للحكم المدني والديمقراطية في بلادنا دون أن تجد الوقت ولو مرة واحدة لتطلبه لمواطنيها

إن تغول المنشآت الرأسمالية على فضاء الصحافة والإعلام لأسباب لا علاقة لها بالصحافة والإعلام أمر خطر على المجتمع وسلامته وأمنه، ويتعين علينا مواجهته بالحجة والبسالة اللازمتين

محمد عثمان ابراهيم
احتفلت شركة دال عملاق المنشآت التجارية السودانية ليلة أمس بتوزيع جائزة الأستاذ محجوب محمد صالح للصحافة السودانية والتي تعتبر أكبر جائزة مالية للصحافة في البلاد والثانية في الفضاء الأدبي والثقافي والإعلامي بعد جائزة شركة زين التي تستخدم/ للدقة تسيء استخدام اسم الأديب الكبير الطيب صالح.
تتفق الجائزتان في عدة ملامح من بينها أنهما تقدمان مبلغاً مالياً معتمداً بالدولار الأمريكي، وأنهما مرعيتان من منشئات تجارية ضخمة لا علاقة مباشرة لها بفضاءات الجائزة، فلا شركة زين لها علاقة بالأدب ولا مجموعة دال لها صلة بالصحافة، وأنهما بالرغم من المبالغ الكبيرة -نسبياً- المرصودة لها والإنفاق على حفلات تقديمها فكلتاهما لم تكتسبا أي قيمة في مجالاتها بمعنى أنه لا يوجد أديب أو صحفي أو كاتب أضافت الجائزة قيمة معنوية إلى سيرته الذاتية لكن لا بأس -طبعاً – بالمبلغ المالي.
مشاركة مني في الاحتفال مع شركة دال العملاقة ومع جائزة محجوب محمد صالح للصحافة بهذه المناسبة، وددت المشاركة بالعديد من الملاحظات حول الجائزة من واقع المزاوجة بين تجربتي الشخصية في الترشح والفوز، وبين القراءة الموضوعية لمسار حركة الشركة الراعية وجائزتها في الحقل السياسي عبر جداول الصحافة، وأتمنى -بحسن ظن كبير – أن تقرأ ملاحظاتي بما ينبغي من أريحية وطيبة خاطر.
***
في العام ٢٠١٩م أعلنت مجموعة دال عن تقديم جائزتها للصحافة في ذلك العام ومن ضمن ذلك جائزة للمقال الصحفي. على الفور تلقيت الكثير من التشجيع من الأصدقاء والمؤازرة من كثيرين ممن كانوا يحسنون الظن بي وأضروا جميعهم على ضرورة الترشح للحصول على الجائزة. في خضم التسييس المفرط لكافة مناحي الحياة السودانية، لم تتحمس صحيفتي لترشيحي ولم أركز على ذلك ما دام الترشح متاحاً بشكل فردي وقد كنت حريصاً على الترشح للجائزة لسبب أساسي أطلعت عليه أصدقائي وهو أنني أريد أن اختبر الجائزة نفسها لا أن أدعها تختبرني! أردت أن اختبر مصداقية الجائزة خصوصاً وأنني مصنف في الجانب غير الموالي للمنشأة الرأسمالية الضخمة التي تستثمر في تيار اليسار السياسي-لا الفكري والثقافي- السابل والمعلوف منظماً في حزب أو تائهاً بلا قيد، وبذلت استثمارات لم تكن تخفى في اللحظات الأخيرة للمعركة مع الرئيس المعزول عمر البشير.
المنشآت الرأسمالية كما الطائفية ضيقة الصدر وقليلة الوقت وزاهدة في الأتباع لذلك فإنها لا تحب الاستقلاليين وتصنفهم عادة في سجل الأعداء، لأن زمنها الغالي لا يسمح بالاستقطاب، وطبيعتها تجعلها دائماً عملية بحيث تركز على تصنيف الأتباع المرجو منهم بدلاً عن اهدار الوقت في جذب الخصوم والمستقلين.
أنا أتابع – بحكم العادة والهواية وبعض التدريب- تداخلات قطاع الأعمال في الحياة العامة في السودان وفي غير مكان لذلك فإن حرصي على اخضاع الجائزة للمساءلة كان أكبر من اهتمامي بالحصول عليها من عدمه وقد أثبت تسلسل الأحداث ذلك بالطبع. لقد نجحت وفق المعايير التي طرحتها اللجنة وفزت بالجائزة، فهل نجحت الجائزة كمؤسسة غير مستقلة وبالتالي المنشأة التي ترعاها في الاختبار الذي وضعتها فيه؟ سنرى.
***
تحملت مسئولية ترشيحي بنفسي تبعاً لذلك، وقد كان المناخ مشحوناً بالترهيب الذي مارسته قوى الحرية والتغيير المتحالفة مع المجلس العسكري، والتي اختطفت الحديث باسم التغيير والثورة، واحتكرت استخدام الدماء الزكية للشهداء والجرحى الذين سقطوا في معركة لم تكن مطلوبة ولا ضرورية بعد أن اكتمل سقوط النظام السابق وذهب قائده نفسه إلى المعتقل.
في ذلك المناخ عجزت عن نشر أحد مقالاتي التي تقدمت بها لاحقاً للجائزة نفسها امعاناً في الرغبة في اختبارها. درت بالمقال على العديد من الصحف لثلاثة أسابيع، ثم وافقت صحيفة الصيحة على المغامرة بنشره، وكانت الدعوات حينذاك لاستمرار الاعتصام أمام القيادة تشق عنان الفضائيات العربية الدعائية والتي تدعو للحكم المدني والديمقراطية في بلادنا -من فرط محبة مموليها لنا أكثر من محبتهم لبلدانهم- لأنهم لم يطلبوا لا الحكم المدني ولا الديمقراطية مرة واحدة لمواطنيهم أو لبلدانهم!
كان ذلك المقال يدعو بشكل حاسم إلى انهاء الاعتصام أمام مبنى القيادة العامة حيث قلت ذلك ضمن ما يقارب الأربعة آلاف كلمة وآمل في سماحة القارئ الكريم على ايراد هذا المقتطف المطول منه”أن هذه التظاهرات قد حققت الهدف الأول المطلوب منها التغطية عليه وهو إسقاط النظام وبقاؤها في ميدان الاعتصام لن يحقق أي أهداف أخرى، بل هو حالة من حالات النشاط الجماعي الذي كتبنا عنه في الحلقة الأولى وناقشته دراسات سيكولوجيا الجماهير وعلم النفس الاجتماعي ودراسات ظاهرة التظاهر والاحتجاج. نتفهم جيداً أن الكثيرين قد فاتهم شرف المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات حين كانت عملاً شجاعاً ويحتاج الى بسالة ونتفهم أن الكثيرين من هؤلاء قد التحقوا بالتظاهرات حين بلغت ميدان القيادة العامة وصارت محمية ببنادق القوات النظامية التي توجهت نحو صدر النظام. نتفهم جيداً أن المشاركة في التظاهرات قد صارت هي الغاية بعد ان تحققت الغاية الرئيسية ولكن لكل أجل كتاب وقد حان الوقت لإعادة البلاد الى قاعدة الانطلاق من جديد. يستطيع المتظاهرون الآن التقاط ما يكفي من الصور ونشر ما يسعدهم من الفيديوهات ورسم لافتات يضعون عليها أسماء أحبتهم الذين لم يتمكنوا من الحضور شخصياُ وأن يستعيضوا عن ذلك بهذا الحضور الرمزي.. ثم ماذا بعد؟
على الجميع العودة الى منازلهم واستخدام كافة الوسائل الممكنة للمساهمة في تحقيق النهوض للبلاد والمحافظة على التغيير عبر الأدوات السلمية المتوافق عليها من نشاط سياسي حزبي وفردي ومن كفاح نقابي ومن إعلام وصحافة ومسرح وآداب وفنون تساهم جميعها في مجد الأمة. لقد حصلنا في الأربعة أشهر الماضية على الآلاف من نشطاء البث المباشر على الفيسبوك رجالاً ونساءً (لايفبويزولايفغيرلز) ما يفيض عن حاجة بلد مثل بلدنا وحان الوقت لأن نكف عن إنتاج المزيد. على المجلس العسكري إنشاء مؤسساته المعينة على الحكم وتعيين مستشاريه ومعاونيه وطرح برنامجه للفترة الانتقالية وتأسيس الأجسام الضرورية لفعالية جهاز الدولة.
أما الاعتصام والتظاهر فقد حان الوقت لإنهائه بشرف ليبقى في ذاكرة الأمة كيومٍ مجيد!” (صحيفة الصيحة ٢٤ أبريل ٢٠١٩م) أي بعد سقوط نظام البشير بأسبوعين فقط.
***
لست ساذجاً لأظن أن الشركات الكبرى تقدم أموالها لوجه الخير العام وتعطي من فضل أرباحها بلا مقابل، ولكني رأيت من متابعتي للكثير من البلدان أن ثمة توازن ما بين مكاسب الجهتين: المانحة والممنوحة.ظل حديث الكثيرين معي ومتابعتهم لأنشطة مجموعة دال في الفضاء الثقافي والإعلامي يعيد على ما أعرفه عن أنها مسيسة بالكامل، وبهذه القناعة فإنني أعتقد ان دخولها في فضاء الصحافة والإعلام بما لهما من تأثير بالغ في حياة الناس لا سيما في السودان الذي تهيم الطبقة الوسطى والعاملة فيه هياماً مشهوداً بالإعلام وبالتواصل مع رموزه، يشكل خطراً بالغاً على حقل الصحافة والإعلام وعلى المجتمع بأسره. لأعيد هذه الفقرة بدقة: إن تغول المنشآت الرأسمالية على فضاء الصحافة والإعلام لأسباب لا علاقة لها بالصحافة والإعلام أمر خطر على المجتمع وسلامته وأمنه، وسيتعين على أن أقدم حجتي على ذلك.
***
واجهت منذ البداية عنتاً شديداً في التقديم للجائزة أدركته منذ رسالتي الأولى على البريد الإلكتروني المعلن عنه إلا أنني كنت مستعداً لكل التعقيدات البيروقراطية التي يتوجب عليها منعي من التقديم للجائزة ابتداء حتى حرماني منها انتهاء، لكن المدهش أنني وجدت منشوراً على صفحة رسمية للشركة بعد عامين من فوزي بالجائزة واسمي محذوف من قائمة الفائزين على ذات النحو الذي حدث للرئيس محمد نجيب في التاريخ الرسمي للدولة في مصر حتى عهد قريب، أو للملك سعود بن عبد العزيز في السعودية!
على كل، أرسلت رسالة بالمعلومات المطلوبة والمقالات فجاءني الرد حاملاً المعلومة بأن ثمة تعقيد تقني مرتبط بمحدودية قدرة صندوق الرسائل على استقبال رسائل إلا بحجم محدود
“Message size exceeds fixed maximum message size”
وعلى الفور خفضت وزن المرفقات وهي فقط ٦ مقالات ورسالة أساسية تحتوي على بعض المعلومات المطلوبة عن المترشح للجائزة وثبت بالمرفقات. ولتفادي عدم قدرة الصندوق على استقبالها قسمتها على رسالتين وأوضحت ذلك للجنة الجائزة على النحو التالي:
السادة الكرام
بعد التحية والتقدير
سأحاول إرسال المقالات على دفعتين تخفيفاً للحمولة فقد عادت الرسالة الأولى إلي دون أن تصل إليكم
مع الشكر والتقدير
محمد
بعد الإرسال جاءني الرد برسالة اعتبرتها تفتقر إلى اللياقة المتعارف عليها في أدبيات التراسل بين الناس إذ جاءت منبرية وغير موجهة لي شخصياً كما هو وارد أدناه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ينبغي التنبيه بأن الأعمال المرفقة يجب أنت تكون قابلة للقراءة وقابلة للطباعة وأن يكون اسم الجريدة والتاريخ واضحين أيضاً حيث العمل التالي غير واضح:
ألهاكم التظاهروحكايات اللايف بوي واللايف غيرل ١ ٢
الصيحة ٢٤ ابريل ٢٠١٩ م
الرجاء أيضا الإفادة بالاسم الكامل وعنوان السكن ورقم الهاتف واثبات الهوية والبريد الإلكتروني.
***
بالطبع فإن اسمي وارد في كل المقالات وكذلك بريدي الإلكتروني وتساءلت بيني وبين نفسي عن ضرورة معرفة عنوان السكن ورقم الهاتف وإثبات الهوية لكنني وفرت كل تلك المعلومات في رسالتين لاحقتين. أما بالنسبة للمقال المشار إليه فقد أرسلت صورة من الصحيفة لإثبات نشره وأرسلت منه نسخة على هيئة وورد يمكن قراءتها لكنهم أصروا على نسخة مقروءة كما تبين الرسالة فاستعضت عن ذلك بإرسال رابط إلكتروني للمقال منشوراً في صحيفة الأحداث على شبكة الإنترنت كزيادة للخير ولإثبات النشر خصوصاً أن شروط المسابقة تعتمد النشر في الصحف الورقية والإلكترونية معاً.
لتفادي أي احتمالات بإبلاغي بأنهم لم يتسلموا المقالات المطلوبة لأسباب فنية متعلقة بالبريد الإلكتروني قمت بإرسال نسخة ورقية من كافة المستندات والمقالات والمعلومات المطلوبة باليد للجنة الجائزة.
هذا الحرص جاء ببالي من تجربة قرأتها عن مرشح للانتخابات الرئاسية في تونس إبان عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي أراد مفاجأة النظام القابض في اللحظات الأخيرة بإعلان ترشحه والتشويش على النتيجة المعدة سلفاُ من قبل السلطات، لكن أجهزة أمن بن علي التي لم تكن تترك شيئاً للصدفة كانت تراقبه حتى إذا تبقت ساعات من اغلاق باب الترشح ركب الرجل سيارته نحو المكتب المختص. في الطريق اعترضته شرطة المرور وعطلته حتى اغلق باب الترشيحات، فقلت لنفسي العاقل من اتعظ بالمرشح التونسي وهكذا كانت لدي نسختان مودعتان في صندوق الترشيحات!
نواصل