(الصحفيون.. البعد عن الاستقطاب السياسي)

النذير إبراهيم العاقب
*
لعل التعريف الأمثل للصّحَافَةِ يبين أنها المهنة التي تقوم على جمع وتحليل الأخبار والآراء والتحقق من مصداقيتها، وتقديمها للجمهور، وغالباً ما تكون هذه الأخبار متعلقة بمستجدات الأحداث على الساحة السياسية أو المحلية أو الثقافية أو الرياضية أو الاجتماعية وغيرها، والصحفي كما فهمنا هو الذي يمتلك الإحساس العالي بكل ما هو جدير في أن يكوِّن خبراً مهماً، وأن تكون لديه القدرة والفراسة الدقيقتين للتمييز بين ما يمكن أن يكون خبراً مهماً وما لا يمكن أن يكون كذلك، والحس الصحفي موهبة ٍوملكة موجودة في الكثير من الأشخاص، ولكنها بحاجة للتنمية والصقل عن طريق التجارب والخبرة المتراكمة، وهي بعد ذلك تشبه إلى حد ما ما يسمى بالحاسة السادسة.
والصحافة كما رسخت في أذهاننا إنها حرفة حالها كحال سائر الحرف، وعلى محترفيها امتلاك كل ما يجعلهم يزاولون حرفتهم بنجاح كبير، ومن ذلك إجادة التعبير الواضح والدقيق عبر اللغة والدقة والموضوعية والخبرة في معالجة وتحرير المعلومات، ومعرفة كلما يتعلق بالمهنة من قواعد وقوانين وشروط ومحددات والتزامات، الأمر الذي حتم أهمية تكوين اتحاد للصحفيين في الدولة، بهدف حماية وتعزيز حقوق الصحفيين وحرياتهم، والتضامن والعدالة الاجتماعية وحقوق العمال والعولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومحاربة الفقر والفساد، وهو ما لم ولن يتحقق دون توفير الحرية للصحافة، والضمانة من قبل الحكومات لحرية التعبير، والتي غالباً ما تكون تلك الحرية مكفولة من قبل دستور البلاد للمواطنين، وتمتد لتشمل مؤسسات الصحافة والإعلام بكل مسمياتها، وتمتد تلك الحرية لتشمل جمع الأخبار والعمليات المتعلقة بالحصول على المعلومات الخبرية بقصد النشر، وفيما يتعلق بالمعلومات عن الحكومة، فلا تتدخل الحكومة في حرية الصحافة إلا في ما يتعلق بشؤون الأمن القومي، بحكم أن حرية الصحافة تعني ضمناً أن من حق جميع الأفراد التعبير عن أنفسهم كتابة أو بأي شكل آخر من أشكال التعبير عن الرأي الشخصي أو الإبداع، لاسيما وأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصّ على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، ويتضمن هذا الحق حرية تبني الآراء من دون أي تدخل والبحث عن وتسلم معلومات أو أفكار مهمة عن طريق أي وسيلة إعلامية بغض النظر عن أية حدود.
وذلك من منطلق أن الصحافة إعلام وتنوير وليس تضليلاً وإشعال للفتن.
مما سبق ينبغي على الصحافة والصحفيين العمل الجاد لجهة إنزال محدداتها وموجهاتها وأسسها ومفاهيمها على الأرض، والبعد التام عن الاستقطاب السياسي والالتزام الكامل بنقل الحقائق المجردة، والأخبار دون خلطها بالآراء، ومن ثم طرح الآراء بتوازن وإنصاف دون انحياز، والبعد عن نشر مقالات تكون أقرب إلى الكيد السياسي، ونشر للشائعات وإلصاق للأكاذيب بالخصوم والتنفيس عن الهوى والغرض، والالتزام بالنقد البناء.
الأمر الدي يحتم على الصحفيين، وخاصة اتحادهم العام عدم الانحياز لرؤية على حساب رؤية أخرى، والانسياق لحزب أو أي تنظيم سياسي دون الآخر، والبعد عن التحريض والتهييج والنفاق والتأييد والممالاة.
وعلى صحافتنا السودانية الشروع الفوري في العودة إلى جادة الطريق الذي فارقته خلال حقبة النظام البائد، والاهتمام بالإعلام التنموي، بالتركيز على قضايا الفقر والمهمشين ومحدودي الدخل، وضرب القدوات والنماذج والمُثُل المضيئة وتقديم الحلول للمشكلات والتركيز على البحث العلمي وطرح الأفكار الجديدة والخلاقة، والمساعدة في إحداث أكبر قدر من التوافق بين الأحزاب والقوى المتصارعة، والوقوف إلى جانب دعم الجهاز الأمني في مواجهة الانفلات، والإسهام في بلورة أجندة وطنية تضع قائمة أولويات ينتظرها الشعب السوداني ككل، وعدم الانشغال بالتفاصيل الصغيرة عن القضايا الكبيرة، علاوة على أهمية تبني الصحافة لمبادرات إدارة الحوارات بين الفرقاء وجمع الأمة على القواسم المشتركة والترويج لمفهوم التعايش السلمي وعدم إقصاء الآخر، وتقديم الرؤى النقدية المتوازنة للقوى كافةً وحفظ الدماء وعدم الدعوة للعنف والتحريض.
وعلاوة على ما سبق فأولوية الصحافة والصحفيين المستقبلية في السودان تكمن في الولوج للأعماق في معالجة الأحداث والوقائع، وذلك من خلال النزول للميدان، وبذل الجهود لاستبصار الخفايا والأسرار، وتفادي الأخطاء المهنية الفادحة، والتي أبرزها التناقض والارتباك في بناء القصص والمعالجات الصحفية ذاتها، والبعد عن للإثارة الزاعقة، خاصة في العناوين، التي تكون بعيدة عن القواعد الموضوعية والأسس المهنية، من أجل إشباع شبق البحث عن سبق أو انفراد، حتى ولو كان على حساب الحقيقة أو الدقة أو بتلوين الحدث أو تسييسه أو ابتساره بشكلٍ فجٍ ومخلٍ.
ومن ثم لابد للصحافة والصحفيين تكثيف الاهتمام والتركيز على تقديم الحلول والرؤى للمشكلات السياسية والاقتصادية الراهنة، والتبشير بالنماذج الخلاقة والطاقات المبدعة، كجهود شباب الثورة في الأقاليم للنهوض بالمجتمع، ورسم خارطة طريق لآفاق الخروج من الواقع البئيس، والاهتمام بالمشاريع الكبرى لبناء الوطن، ودعم المبادرات الشعبية والأهلية لتحسين الخدمات والارتقاء بمستوى الصحة والتعليم والطرق، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من كل المنتوجات.. إلخ، مع الاهتمام ببث روح التفاؤل في النفوس كأولوية صحفية.
ولأن الحرية أساس المسؤولية، فيجب على الصحفيين السودانيين الالتزام بواجبهم الوطني في عدم الوقوع في دائرة الاستقطاب السياسي، وتجنيب الوطن خطر ترويج الأكاذيب والشائعات، والامتناع عن نشر الدعوات العنصرية، والتحريش بين أبناء الوطن، وبث الفتن بين مؤسساته، والتنميط الخاطئ للأشخاص والهيئات، فضلاً عن الامتناع عن إضفاء الشرعية على أي انقسام سياسي.
ومن الواجب الوطني للصحافة كذلك التحلي بالنزاهة وانتفاء الغرض وتجنب تعارض المصالح والانحياز والهوى وتحري المصلحة العامة، وأن يراعي العاملون فيها تقاليد المهنة وآدابها والنأي بأنفسهم عن أن يكونوا طرفاً في أي خصومة سياسية أو خلافات مجتمعية، وأن يحرصوا على نقل الحقائق كاملة دون تشويه أو اجتزاء أو افتراء، مستهدفين جمع الصف ووحدة الكلمة وبث الأمل في نفوس أبناء الوطن جميعاً.
وفيما يتطلع الصحفيون إلى الاستجابة لمطلبهم بإلغاء الحبس في قضايا النشر، يجب على نقابة الصحفيين أن تضطلع بدورها في ضمان تقديم أداء إعلامي رشيد ومسؤول يلتزم بقواعد المهنة ومعاييرها ويُفَعِّل ميثاق الشرف، ويحاسب الخارجين عليه ويقدمهم إلى التأديب طبقاً للإجراءات المحددة المنصوص عليها بقانوني النقابة وتنظيم الصحافة، حفاظاً على شرف المهنة وسمعة العاملين بها.
لا سيما وأن الصحفيين يدركون تمام الإدراك أن التزام القواعد المهنية والاستقلالية وقول الحقيقة سبيلهم إلى الاضطلاع برسالتهم الإعلامية ودورهم المجتمعي، بحكم أن مكانة القيم الأخلاقية لمهنة الصحافة تعاظمت جراء تعاظم التأثير الكوني للمهنة ذاتها، بسبب التطور الهائل لتقنية الاتصالات الذي أسفر عن الظاهرة التي عرفت بثورة المعلومات، حيث اتفقت في هذا المضمار أطراف العملية الإعلامية والمعلوماتية في كل العالم على عدد من المعايير التي اتسمت بالطابع الأخلاقي، وصارت تعرف بأخلاقيات الصحافة، أو بحسب التسمية الجديدة التي أطلقتها المبادرات الصادرة عن الاتحاد الدولي للصحافيين قبل أعوام قليلة.. الصحافة الأخلاقية، وأن الاتحاد الدولي للصحافيين حدد جملة من المفاهيم أو المعايير أو الشروط التي تستند الصحافة الأخلاقية على مداميكها، والتي أبرزها الحيادية والاستقلالية واحترام الحقيقة، وحرية تدفق المعلومات كمعيار أساسي لحرية الإعلام عموماً، والعمل من أجل الصالح العام، وعدم تدخل الحكومات في العمل الصحافي وغيرها من المفاهيم التي تشير إلى الهوية المهنية والاجتماعية والأخلاقية للصحافة.
والمعلوم أن حرية الإعلام.. وفي الأساس حرية تدفق المعلومات والأفكار دون تدخل من قبل السلطات الحكومية أو الرسمية أو أية سلطة بما فيها سلطات الأحزاب والتجمعات ذات المصالح المختلفة.. هي مطلب أساسي لإقامة مجتمع حر ديمقراطي مستقر ومزدهر.
وذلك يحتم على اتحاد الصحفيين السودانيين تقديم مبادرة الصحافة الأخلاقية، على أن تهدف إلى نشر الوعي الجماعي بحقيقة الدور الذي يمكن، بل يجب أن تضطلع به الصحافة في بناء هذا النوع من المجتمعات، لأنه وبدون صحافة حرة ومستقلة، يخسر المجتمع وأهله حقاً مهماً في الحياة الكريمة، مثلما يخسر شرطاً رئيساً من شروط حريته، على أن تطالب هذه المبادرة المشتغلين في مهنة الصحافة بضرورة احترام الحقيقة والتزام الاستقلالية والحياد في تعاطيهم مع القضايا والأحداث محل التناول الصحافي، في إطار عملهم من أجل الصالح العام.
وحول معايير الصحافة الأخلاقية في العملية الصحافية السودانية التي نريد، فالملاحظ أن المشتغلين في مهنة الصحافة في السودان ينظرون إلى شروط الأداء المهني الراقي والتطور التقني الرفيع في نطاق مهنتهم كنوع من الترف في ظل افتقارهم إلى أبسط شروط الأمن والأمان والسلامة، من جهة.. أو التمتع بأبسط ضمانات الحرية والحيادية والاستقلالية والحصول على المعلومات من جهة أخرى، وأن قائمة الممارسات التي تقدم عليها السلطة وقوى اجتماعية متخلفة أخرى ضد الصحافة وأهلها في السودان، تتطاول إلى أبعد الحدود التي يمكن للمرء أن يتصورها، بدءاً من قطع الرزق، ومروراً بقطع الأمل، وصولاً إلى قطع الرأس، وإن الصحافي في السودان يحارب في أكثر من جهة، وعلى أكثر من جبهة وكأنه لا تكفيه معاناته على صعيد الفاقة المعيشية، أو كأنه لا تكفيه معاناته على صعيد التخلف الفني والتقني، أو انعدام التطور المؤسسي، أو كأنه لا تكفيه المنغصات الكامنة في النصوص التشريعية التي تمس حياته المهنية وحريته في مقتل، في بعض الأحيان.
أما على صعيد الفساد، فيجد الصحافي السوداني نفسه كالراجل على برزخ من لهب بين ضفتين من جهنم، فهو مطالب بكشف ومكافحة بؤر الفساد في الدولة والمجتمع، فيما هو يعاني من هذه الآفة في محيطه المهني على نحو مباشر.
وحول ميثاق الشرف الصحافي في بلادنا، فنجده يعاني أزمة ذاتية وموضوعيه خانقة، إذ لا تقتصر الإشكالية الحقيقية في هذا المضمار على صعوبة تفعيل هذا الميثاق في أوساط الصحفيين أنفسهم، إنما تتمثل أساساً في صعوبة، وربما استحالة توفير ميثاق شرف تلتزم به أجهزة السلطة تجاه الصحافيين أنفسهم، والتي هي في الأساس أجهزة قمعية بالفطرة والممارسة، لا يصعب استيعابها لفكرة الميثاق بحد ذاته فحسب، بل يصعب تأقلمها مع مفهوم الشرف أساساً، وأن الجهاز المركزي للأمن القومي صار متخصصاً في شؤون الصحافة والصحافيين، إلى جانب الجواسيس والعملاء والمخربين، كأنه صار جهازاً مركزياً للإعلام القومي.
نخلص من كل ما سبق إلى أهمية عمل اتحاد الصحفيين الشروع الفوري في إجراء تعديلات دستورية جوهرية خاصة بحرية الصحافة، وإلغاء المواد المجرمة للعمل الصحفي أو تفرض عقوبات على الصحفي في قانون الصحافة والقوانين الأخرى، وإصدار تشريع يضمن تدفق المعلومات ومنع حجبها، وأن تقوم دولة الثورة القادمة ببناء قضاء مستقل بالصحافة والصحفيين، مع الأهمية القصوى لإلزام الصحف الأهلية والحزبية إبرام عقود مع الصحفيين تضمن لهم أدنى حد لمواجهة الحياة المعيشية والعملية، وتفعيل لجنة الصحافة الأخلاقية.