الإصلاح الإقتصادي.. خارطة طريق فاعلة

*
النذير إبراهيم العاقب
*
أكّد د. جبريل إبراهيم محمد وزير المالية والتخطيط الإقتصادي لدى إجتماعه باللجنة العليا لموازنة العام ٢٠٢٣م علي أهمية بناء موازنة شفافة ذات موارد حقيقية، واقعية وتنموية، وأكّد على أهمية تطبيق الرقمنه التي من شأنها زيادة الإيرادات والتحكم في الأرقام والإستفادة من الزمن وتقليل الترهل الإداري مما يُسهِّل لجهات صُنع القرار في الدولة إتخاذ القرار.
ولفت إلى أن الموازنة العام تهدف إلي الإصلاح الإقتصادي والهيكلي وتحريك الموارد وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتحول الرقمي وتوسيع المظلة الضريبية ومكافحة التهرب الجمركي .
وليس خافيا على أحد التدهور المريع في كل جوانب الاقتصاد السوداني، والذي بلاشك تعود أسبابه كنتاج لسياسات إصلاح اقتصادي طبقتها حكومة رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك تجاوبا مع اشتراطات صندوق النقد والبنك الدوليين، وسط ظروف لم تكن مواتية البتة، خاصة قرارها الخاص بتعويم الجنيه، حين تقرر رفع قيمته وقتها مقابل الدولار من 55 إلى 375 جنيه دفعة واحدة، مما أفضى إلى تراجع قيمته التبادلية بنحو 75%، وحتى هذه النسبة تآكلت بفعل التضخم وارتفاع الأسعار وتحرير المواد البترولية، والتي أثرت بدورها على تكلفة الإنتاجين الزراعي والصناعي، يضاف إلى ذلك ارتفاع أسعار السلع المستوردة، فضلاً عن أن عدم الاستقرار السياسي وتعليق المساعدات الدولية بعد 25 أكتوبر من العام الماضي، وانسداد الأفق السياسي أثر على إمدادات السلع والخدمات مما أدى إلى تردي الوضع مع تزايد حدة المضاربات.
وإن كانت وزارة المالية تريد حقاً المضي قدماً في إصلاح الاقتصاد السوداني، فعليها اتباع واتخاذ
خطوات فاعلة في هذا الخصوص، وتبدأ أولى خطواتها باتجاه الموازنة العامة من خلال وقف اتجاهات عمليات الاقتراض نحو النفقات التشغيلية واستبدالها باقتراض للمشاريع الإنتاجية والرأسمالية، وهذا يتطلب أن يكون لدى الحكومة خارطة طريق استثمارية بالمشاريع التي من شأنها أن تعزز الاستقرار الاقتصادي وترفع تنافسية بيئة الأعمال المحلية، وتكون بالشراكة الفعلية مع القطاع الخاص، لكن للأسف غالبية اتجاهات القروض تذهب لتلبية نفقات حكومية تشغيلية من رواتب وغيرها لا تغني ولا تسمن من جوع، فضلاً عن أهمية تعزيز مبدأ التدريب والتقييم والمساءلة لجهاز الدولة الإداري الذي بات اليوم يُشكل وسيلة ضغط سلبية على بيئة الأعمال والتعامل مع القطاع الخاص، مما يحتم ضرورة إعادة هيكلة القطاع العام على أسس جديدة بعيدة عن نظام الأعطيات والمحسوبية والواسطات المتبع، وتغيير مبدأ الضمان الوظيفي والحصانة الوظيفية التي يتمتع بها موظفو القطاع العام رغم إخفاقهم في أعمالهم، وتعزيز مبدأ المحاسبة والمكافأة كُل حسب إنجازه.
كما أن الحكومة السودانية الآن في أمس الحاجة إلى إيقاف النمو السلبي المتزايد في النفقات التشغيلية والتي غالبيتها تأتي استجابة لعمليات ضغوطات الحركات المسلحة التي تمارس عليها أو بزيادة العلاوات والرواتب والتي عادة تمنح للجميع دون أدنى درجات التقييم ومعايير الإنجاز، أي وفق نظام الاعطيات للجميع.
من ماسبق يتضح أن أمر الإصلاح الاقتصادي بحاجة عاجلة وماسة إلى خطة تفصيلية لإصلاح ما هو موجود من خدمات ومرافق، فنحن في السودان لدينا كل شيء فيما يتعلق بالمرافق والإمكانات التي تتعامل مع المواطنين والمستثمرين، لكن نوعية الخدمات من تدن إلى آخر يوماً بعد يوم، والسبب في ذلك انتشار الواسطة في المرافق، وضعف في إعداد الكوادر المؤهلة لإدارتها، فمثلاً وليس حصراً، فالبلد ليست في بحاجة إلى مستشفيات ومراكز صحية جديدة بقدر ما هي بحاجة إلى كوادر طبية وإدارية قادرة على الرقي بالتعاملات مع المرضى وتقديم الخدمات بالشكل الصحيح، وهذا الأمر يتعلق بكافة المرافق الخدمية من تعليمية وبلدية ومالية وغيرها، وأفضل طريقة للقضاء على مظاهر الفساد الإداري والنهوض التدريجي في الخدمات هو اتمتتها إلكترونياً، كما حصل في العديد من الدول العربية من قبل، والتي باتت كل معاملات المواطنين والمستثمرين فيها إلكترونية في وقت قياسي، بينما نحن لغاية يومنا هذا نسير في المربع الأول فيما يتعلق بالحكومة الإلكترونية التي كنا سباقين إليها وفي الدعوة لها.
كما أن وزارة المالية اليوم في أمس الحاجة إلى شراكة فعلية وحقيقية مع القطاع الخاص في عملية صنع القرار، فالحكومات لا تدري بمشاكل بيئة العمال كما يعرفها القطاع الخاص، ولا يجوز اتخاذ القرارات والقوانين دون أن تكون هناك تطورات وتفاهمات معه أو المشاكل التي تعترض طريق تنمية أعمالها واستمرارها.
كما أن الاصلاح الاقتصادي لا يكون إلا من خلال تعزيز مبدأ سيادة القانون وفرض هيبته وحماية المجتمع من تغولات القوى النافذة والتقليدية التي تعرقل مسيرة الإصلاح من أجل مكتسبات خاصة.
ولعل الناظر إلى المرتكزات الإصلاحية الاقتصادية السابقة يجد أنها غير مكلفة على الخزينة ويمكن السير بها فوراً ودون تردد، والأمر ليس مناطا بوزارة المالية وحدها، وإنما بتوفر إرادة حكومية حريصة على الإصلاح.
ولا يمكن للحكومة أن تسير ببرنامج اقتصادي وطني مستقل عن برنامج التصحيح مع صندوق النقد الدولي الذي يحدد مسار وآليات الحكومة في تنفيذ عدد من السياسات خلال سنوات البرنامج، لكن هذا لا يمنع أبداً أن تكون لدى الحكومة خطوات إصلاحية اقتصادية بالتزامن مع برنامج الصندوق، والأمر يحتاج إلى تفاهمات داخلية بين أعضاء الحكومة أولاً، والحكومة ومجلس النواب.. إن وجد.. ثانياً.
ومن ثم يأتي برنامج الوطني للإصلاح الهيكلي كمرحلة ثانية من البرنامج الوطني للإصلاح الاقتصادي الذي تعتزم وزارة المالية إنفاذ في خطتها القادمة، والذي يهدف إلى دعم الاقتصاد لتحقيق نمو شامل متوازن ومستدام، وهو بالفعل، إن صدقت النوايا، برنامج وطني يجب ان يتم إعداده باتباع منهج تشاركي تتبناه الحكومة، جنباً إلى جنب مع مؤسسات الدولة السودانية العامة والخاصة والمجتمع المدني.
وتتمثل الأهداف الرئيسة للبرنامج في تعزيز المرونة الاقتصادية، وتشجيع العمالة والتوظيف، ورفع القدرة الإنتاجية والقدرة التنافسية للاقتصاد، ولاسيما الصناعات الموجهة للتصدير.
كما يستهدف البرنامج الوطني للإصلاح الهيكلي القطاع الحقيقي والأسواق الثلاث المتداخلة، سوق المال وسوق التجارة وسوق العمل، ويتم التركيز بشكل أكبر على تنويع هيكل الإنتاجية لثلاثة قطاعات رئيسة ذات أولوية، الزراعة والصناعة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي وميزان المدفوعات وزيادة فرص العمل، وتجدر الإشارة إلى أن تنويع هيكل الإنتاجية يجب أن يدعم بالدعم الفني لتنفيذ الإصلاحات التنظيمية اللازمة، ولتعزيز الوصول إلى الأسواق والتمويل، مع مراعاة الشركات الصغيرة والمتوسطة.
إلى جانب ذلك فإن تنويع الهيكل الإنتاجي للاقتصاد السوداني، يعتبر حجر الزاوية للبرنامج الوطني للإصلاح الهيكلي، ويجب أن يعمل على تطوير بيئة الأعمال وتعزيز دور القطاع الخاص، حيث يتم استكمال هاتين الركيزتين بتدابير إصلاح أساسية في سوق العمل لضمان كفاءتهما، وإصلاحات في رأس المال البشري، وضمان الشمول المالي والوصول إلى التمويل، وأخيراً وليس آخراً إصلاحات في الحوكمة العامة والرقمنة لضمان الاستدامة المالية والكفاءة في القطاع البيروقراطي في السودان.
وتجدر الإشارة إلى أن برنامج البرنامج الوطني للإصلاح الهيكلي يشمل ست ركائز، تكملها تدابير هيكلية وتشريعية، الركيزة الأولى تشمل تدابير لتحسين بيئة الأعمال التجارية، ولتعزيز التبادل التجاري وزيادة الصادرات في الأسواق الإقليمية والدولية، وسيحافظ هذا أيضاً على تطوير القطاعات ذات الصلة بالبنية التحتية (مثل الكهرباء والطاقات المتجددة، والقطاع البحري والنقل).
والركيزة الثانية تشمل تدابير لتعزيز التصنيع المحلي، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة التحويلية وتعزيز الأمن المائي والغذائي، والنظر في زيادة القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية، بالإضافة إلى إجراءات تطوير قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال، وكذلك الخدمات اللوجستية وقطاع البناء.
أما الركيزة الثالثة فتغطي تدابير تعزيز كفاءة سوق العمل والتدريب المهني والتقني والتكنولوجي. بالإضافة إلى ذلك، سيسهل توفير البرامج التدريبية والأساليب الحديثة للوصول إلى الوظائف وتمكين المرأة والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.
وتشمل الركيزة الرابعة تدابير للحفاظ على تنمية رأس المال البشري من خلال تعزيز كفاءة النظم التعليمية وتعزيز خدمات الرعاية الصحية، وضمان استهداف أفضل للمستفيدين من دعم المواد الغذائية والتحويلات النقدية.
والركيزة الخامسة تشمل تدابير لتوسيع نطاق الشمول المالي وتيسير الوصول إلى التمويل وتنويع أدوات التمويل، وتعزيز السلامة المالية لسوق رأس المال، فيما تتضمن الركيزة السادسة تدابير لضمان الحوكمة العامة للمؤسسات العامة والمالية، ولتوسيع وتعميق نطاق الرقمنة عبر الاقتصاد، وتمكين استقلالية الوحدات الإدارية المحلية وقدراتها المالية، وتعزيز شفافية السياسات المالية وإدارة الديون.
وبشكل عام فإن بناء اقتصاد جيد يتطلب التأسيس وجيد التنظيم، وجعله أكثر قدرة على الصمود مثل هذه الإصلاحات الهيكلية المحلية الرئيسة والسياسات الاقتصادية المنسقة جيداً، بما في ذلك توسيع شبكات الأمان الاجتماعي لحماية أفقر الأفراد والأسر الأكثر ضعفاً.
تلك بلاشك هي الأسس الفاعلة التي من المفترض أن تتبعها الحكومة وزارة المالية السودانية لوضع خطة تنموية شاملة وتفضي إلى خطوات عملية لإصلاح الاقتصاد الوطني مستقبلاً.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب