النذير إبراهيم العاقب
*
نقلت صحيفة (اليوم التالي) عن مصادر تأكيدها صحة تسريبات عودة رئيس مجلس الوزراء السابق عبد الله حمدوك مجدداً وبرعاية إماراتية لرئاسة الحكومة السودانية.
وقالت المصادر إن حمدوك وافق على العودة لمنصبه، معربة عن توقعاتها بأن يواجه القرار رفضاً حاداً من الشارع والقوى السياسية السودانية.
وهو بالفعل ما تأكد عقب وصف الحزب الشيوعي للتسريبات والأخبار المتداولة بشأن عودة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك إلى منصبه بأنّها مثيرة للدهشة والاستغراب.
وقال الناطق الرسمي باسم الحزب فتحي فضل إنّ حمدوك أثبت فشله مرتين ولم يستفد من الدرس الأوّل لرجوعه بعد الإطاحة به، والثاني فشله أثناء عودته التي وجد فيها دعماً دولياً ومحليا.
ولعل تحليل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي هو الحقيقة الدامغة التي لا مناص منها، بحكم الفشل الذريع الذي أثبتته فترتا حمدوك السابقة في رئاسة الوزراء والتي أوردت الاقتصاد السوداني موارد الهلاك، والمتمثل في عجز حمدوك وحكومتيه السابقتين عن حل مشاكل الاقتصاد، ومن ثم تسببت في اندلاع مظاهرات كبرى، مما أطر لتصاعد كل الأزمات التي كان يعاني منها السودان طوال الثلاثين عاماً التي سبقت انتفاضة الشعب السوداني ضد حكم النظام البائد، فضلاً عن دخول السودان الذي يقع تحت إدارة حكومة انتقالية غير منتخبة برئاسة عبد الله حمدوك، في خط عريض من الأزمات والاحتجاجات المستمرة منذ شهور قبل عزله، ومن ثم تقديمه لاستقالته، بسبب عجز حكومته عن حل الأزمات السودانية المتراكمة، والتي بسببها بات السودان يئن من أزمات متجددة لا تنتهي في السلع الأساسية، لا سيما الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، نتيجة سياسة التحرير التي أعلنها حمدوك، بجانب الارتفاع المرعب لسعر الدولار مقابل الجنيه السوداني، ووصوله إلى أرقام قياسية، إذ كان الدولار وقتها يساوي 55 جنيهاً في السوق الرسمية و300 في الموازية، فضلاً عن زيادة أسعار الخبز والكهرباء والمواد الرئيسية بشكل مستمر، ووصول نسبة التضخم حينها إلى 329% عام 2021م، مما أفضى بالاقتصاد السوداني إلى حالة الانهيار التام، ناهيك عن أن السودان قد شهد خلال السنوات الأربع الماضية عدة تغيرات اقتصادية نتيجة لتطبيق سياسة التحرير الاقتصادي التي ثبتها حمدوك بأوامر من البنك الدولي، وخاصة فيما يتعلق منها بتحرير التجارة، وخصخصة مؤسسات الدولة، والسياسة المالية.
فالنظريات السياسية، والتجارب الاقتصادية كالأشجار لا يعني أن ثمارها الجيدة وشدة اخضرارها وامتداد ظلالها، أنها تصلح لكل زمان ومكان لذلك فهي تحتاج لإعداد التربة ومعرفة ظروف البيئة المحيطة لضمان نجاحها والاستفادة منها بأكبر قدر والسعي لتلافي قصورها وتطويرها، والمقصود الاستفادة من التجارب الإنسانية بوعي وتبصر من غير قبول مطلق أو رفض مطلق لها، بالرجوع لتجربة سياسة التحرير الاقتصادي كالذي كان يجب قبل تطبيقها دراسة المجتمع وأحواله وعلاقاته البينية وثقافته وتقاليده وطرقه الإنتاجية، ودرجة تطوره ومدى قدرته وقابليته لتحمل تبعات تلك السياسة لوضع الاحتياطيات التي تعالج الإفرازات السلبية لتلك السياسة وهو الشيء الذي لم يحدث من قبل حكومة حمدوك الفاشلة، لا سيما وأن سياسات التحرير الاقتصادي تعني زيادة الرفاهية الاقتصادية، وذلك بتحرير القطاع الخاص من تدخل الدولة في أسواق المال والسلع النهائية والعمل، ولكن لابد من وجود رقابة حكومية وإدارية على النشاط الاقتصادي الخاص، بالإضافة إلى تقليل حجم القطاع العام عن طريق الخصخصة، وهذا ما لم ولن يحدث من قبل الحكومتين التي أدارها حمدوك، والتي سيديرها لاحقاً، إن صحت الأقاويل التي تشير إلى عودته لرئاسة الوزراء من جديد، وهذا ما لا يتمناه أي سوداني حريص على استقرار ونهضة السودان التنموية والاقتصادية مستقبلاً.
ولعل سياسة التحرير الاقتصادي كما وعيناها، هي مجموعة الإجراءات الاقتصادية الموصى بها من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الـدولي، والتي تهدف إلى الوصول بالاقتصاد إلى حالة الاستقرار التنموي الشامل من خلال معالجة الاختلالات المالية والنقدية التي يعاني منها، وأيضاً تحقيق نمو مستمر من خلال إجراء تعديل على هيكل هذا الاقتصاد.
وسبق أن وصف بعض الاقتصاديون سياسة التحرير الاقتصادي بالسياسة المتطرفة، والتي تدعو إلى رأس مالية متوحشة تتحدث عن التحرير الكلي والمطلق الذي لا يحده شرع ديني أو أخلاقي أو اجتماعي أو حكومي، الأمر الذي يوجب أهمية الانتباه إلى أن تطبيق هذه السياسة أدى إلى نتائج مزعجة وكارثية في المجال الاقتصادي في السودان، وفاقم العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، إضافة إلى ارتفاع معدل الوارد وتراجع معدل الصادر، مما نتج عنه انفتاحاً في السوق واختفاء القدرة التنافسية للسلع المحلية.
وعند التدخل الخارجي في الشؤون الاقتصادية للدول المدينة، حيث حدد صندوق النقد والبنك الدولي ثلاث آليات لتنفيذ شروطه، فأول آلية هي تحرير الأسعار، والذي يتضمن تحرير أسعار السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، والحد من تدخل الدولة في تحديد الأسعار، أو التسليم الإجباري للمحاصيل، وتحرير أسعار الفائدة وتوحيد أسعار الصرف وإلغاء الحد الأدنى للأجور.
ثانياً: سياسة الخصخصة، حيث تسعى إلى أن يطغى دور القطاع الخاص ويحل محل القطاع العام في النشاط الاقتصادي مما يؤدى إلى تراجع دور الدولة ويتم ذلك عن طريق بيع مشاريع القطاع العام الخاسرة إلى القطاع الخاص لتشغيلها على أساس تجاري بهدف زيادة الربح.
وثالثاً: تحرير التجارة الخارجية، وذلك بإلغاء القيود على المدفوعات الخارجية، وإلغاء اتفاقيات التجارة، وخفض الرسوم الجمركية، وتشجيع التصدير.
وتتمثل مزايا سياسة التحرير الاقتصادي في فتح المجال أمام القطاع الخاص لتحريك طاقاته الكامنة ليصبح قطاعا رائداً، بينما يصبح القطاع الحكومي قطاعاً رقابياً وتنظيمياً يحمي المنتج والمستهلك مع استيعاب القطاع الخاص لأكبر قدر من الكوادر البشرية لتغيير النظم الإدارية فيه، وتوفير السلع والخدمات بالرغم من ارتفاع أسعارها وتضييق الفرص أمام السوق السوداء، وكفاءة المنتجات وزيادتها، إذ أنه وفي ظل التنافس الحر تقوم كل منشأة بابتكار الأفضل والأجود، ناهيك عن ضرورة قيام عدد من الصناديق لدعم الفئات الفقيرة إضافة إلي وضع برنامج معاشات شهرية للأسر ضعيفة الدخل.
أما عن سلبيات التحرير الاقتصادي، فإنه يجبر الدول على الإقدام على الزيادات الدورية في الأجور، نتيجة لتصاعد الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية للعملة المحلية، وهذا بالفعل ما حدث في السودان عقب تطبيق تلك السياسة دون انطباق معاييرها وتوفرها في الحالة السودانية، مما أدخل الدولة في حلقة مفرغة وصراع مستمر لتعويض الطبقات الفقيرة للحفاظ على مستوى معيشة معتدل ترتب عليه عدم انضباط في السوق، وتصاعد مستمر في الأسعار مع ندرة بعض السلع لعدم توفر مدخلات الإنتاج، والتي يتطلب توفيرها عملات حرة في ظل توقف المعونات، والقروض الأجنبية، وانخفاض تحويلات المغتربين، وزيادة نسبة العطالة نتيجة لسياسة الخصخصة، وعدم وجود زيادة في الإنتاج، أي يحدث ما يسمى بفائض العمالة نتيجة لجوء بعض المصانع إلى تخفيض العمالة للحفاظ على مستوى معين من الإنتاج وبأسعار معقولة، بجانب زيادة السيولة في ظل إنتاج متدنٍ في بعض القطاعات، وطلب مرتفع على بعض السلع، مما يعني زيادة التضخم، الأمر الذي يضطر الدولة للاستدانة من النظام المصرفي لمقابلة زيادة الأجور وبالتالي مزيد من التضخم، وكذلك ارتفاع الطلب على العملات الحرة مما أثر على سعر الصرف وانخفاض القيمة الحقيقية للعملة الوطنية نتيجة لتوقف المعونات والمنح الخارجية والشح في العملات الحرة، وذلك تلبية لحاجة المصانع والقطاع الزراعي لمدخلات الإنتاج.
فضلاً عن انخفاض الاستثمار في قطاع العقارات لعدم وجود عائد مجزٍ في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية، ولجوء العمالة المدربة لمهن غير منتجة مثل السمسرة وتجارة العربات والعقارات والأراضي نتيجة لعائدها الكبير، في الوقت الذي لا تسهم فيه بطريقة مباشرة في زيادة الدخل القومي.
وتلك في الحقيقة الورطة الاقتصادية التي أدخل فيها حمدوك السودان، ولا مناص من الخروج منها سوى التفكير الجاد من قبل المسؤولين في المجلس السيادي بعدم الرضوخ لأي ضغوط خارجية، مهما كان حجم المضار التي يمكن أن تعود على السودان حال رفضها، لاسيما وأن الطريقة التي قبل بها حمدوك العودة لرئاسة الوزراء في السودان، وبتدخل مباشر من قبل الإمارات العربية المتحدة، يعتبر تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية السودانية، وهو ما يجب، واللحظة قبل التي تليها، عدم انجرار الحكومة السودانية وراء تطبيقه ورفضه التام، لاسيما وأن السودان مليء بالكفاءات الاقتصادية المؤهلة لإدارة أكبر وأعتى المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية، فهل عقمت حواء السودان إلا من حمدوك؟!