النيل الأزرق.. ووقع الفأس في الرأس

* النذير إبراهيم العاقب
* أقدمت مجموعة كبيرة من المتظاهرين في مدينة الدمازين عاصمة إقليم النيل الأزرق الأحد الماضي على اقتحام مبنى أمانة الحكومة والقيام بحرق الطابق الأول منه، احتجاجاً على عدم استجابة الحكومة المركزية لمطالبة ذات المتظاهرين بإقالة حاكم الإقليم خلال ثماني وأربعين ساعة، الأمر الذي تصدت له الأجهزة الأمنية وقامت بتفريق المتظاهرين بشتى السبل الكفيلة بذلك.
ولعل ما حدث ليس هو التصرف الأمثل لمعالجة كافة القضايا المتشعبة والتي أفضت إلى اشتعال الفتنة القبلية في النيل الأزرق، حيث أن مباني أمانة الحكومة تعتبر ملكاً عاماً لشعب الإقليم، وليس ملكاً للحاكم أو الحركة الشعبية التي ينتمي إليها، الأمر الذي يوجب على السلطات المختصة في النيل الأزرق، وخاصة في ظل وجود قانون الطوارئ الذي أصدرته اللجنة الأمنية الجمعة الماضية، القبض على كل متسبب في حريق الأمانة، وفيديوهات الكاميرات السرية خير خير شاهد على كل متورط في الأمر، لا سيما وأن جل المحروق من مستندات تعتبر إدارية بحتة وتخص الآلاف من المواطنين الذين يتعاملون مع أمانة الحكومة.
وبالعودة إلى منبع الصراع والاقتتال الدائر الآن في النيل الأزرق، نجد أن أساسه نابع من صراع إثني ونزاع عرقي بحت، أي أنه نزاع بين مجموعتين عرقيتين، والغريب في الأمر أن مصدر النزاع هذا ليس سياسياً أو اقتصادياً أو دينياً البتة، وإنما صراع اجتماعي إثني قبلي في المقام الأول، والمعلوم في هذا الخصوص أنه كان من الأوجب على القيادات السياسية ومكوك وقادة القبائل المشتركة في هذا النزاع أن يناضلوا وبشكلٍ أساسي من أجل وضع الجماعات العرقية في المجتمع لمنع حدوث أي نزاع أو علاجه عبر فهم مسببات النزاع بشكل خاص وتطبيق آليات وبرامج وسياسات تناسب نوع النزاع والمستوى الذى وصل إليه.
والثابت في هذا النزاع الناشب بأنه اختلاف في المصالح بين مجموعات مختلفة عرقية وسياسية، من خلال مخالفات غير منطقية لأعراف الحياة اليومية، غير أن هذه الممارسات غير المنطقية لا تمنع وجود أسباب منطقية، كما في مطالب الكثير من الأقليات العرقية في المشاركة والتنمية، وهناك من عرف النزاع بأنه انهيار أو تعطل النظام الاجتماعى والسياسي القائم، دون أن يكون هنالك بالضرورة نظام بديل، كما يحدث النزاع عندما تلاحظ مجموعتان أو أكثر أن مصالحها أصبحت متناقضة وأن التعبير عن مواقفها أصبح يتم بعدائية أو بأعمال تؤدى بالإضرار بالمجموعات الأخرى.
والمعلوم أن مسببات هذا النزاع والصراع حول الموارد والثروة والمتمثل، في الأرض وسائل الإنتاج بالتحديد، ولا صلة له بالمشاركة فى السلطة وكيفية تقسيم الأدوار السياسية وآليات الحكم في الإقليم.
ومع احتدام الصراع الناشب الآن في محافظة ود الماحي وتشعبه حتى وصوله حتى عاصمة الإقليم، في ظني يتطلب التحرك العاجل من قيادة المجلس السيادي لجهة منع حدوث النزاع بناء علاقة المواطنة بين الجماعات العرقية والدينية والثقافية وتعميق مفاهيمها، ولقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة استخدام الفروق العرقية في تفاقم النزاع الداخلي في الإقليم.
وبما أن درجات النزاعات الداخلية تختلف بشكل أو بآخر من منطقة لأخرى، وتتردد ردود الفعل الرسمية والشعبية تجاه ذلك بين محاولات وقف الحروب الأهلية، وحماية وتقوية السلام الوطني لئلا يستبدل به مواجهات داخلية، حيث يمثل احتواء النزاع العنيف وتخفيف المعاناة ونزع فتيل الصدام، التحدي الكبير والرئيس في المنطقة، كما يلزم حكومة إقليم النيل الأزرق الذي خرج من صدامات وحروب أهلية طويلة الأمد، دون أن تنتهي جيوب الاحتقان فيه بشكل نهائي، أن تسارع في تنفيذ برامج إعادة الإعمار والتنمية الاجتماعية والإصلاح السياسي، لتنتج جميعها سلاماً ووفاقاً اجتماعيين فاعلين، الأمر الذي يتطلب بناء علاقة المواطنة بين الجماعات العرقية والدينية والثقافية، وتعميق مفاهيمها لقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة استخدام هذه الفروق العرقية والدينية والثقافية في إشعال نزاع داخلي، الأمر الذي يحتم أن تكون الإجراءات المتخذة لمنع أي نزاع أو تسكينه فاعلة، بما يوجب فهم مسببات ذلك النزاع بشكل خاص، وتطبيق سياسات وبرامج وآليات متعددة تناسب نوعه والمستوى الذي وصل إليه، خاصة وأن تعريف النزاع الداخلي يبين أنه التنازع بين مجموعات مختلفة عرقية وسياسية من خلال مخالفات غير منطقية لأعراف الحياة اليومية للمجتمع، غير أن ممارساتها غير المنطقية لا تمنع وجود أسباب وأهداف منطقية تقف وراءها، كما هو مشاهد في مطالب العديد من الأقليات العرقية والسياسية، بما يعبر بوضوح عن وجود أسباب منطقية لما تعيشه المنطقة من نزاعات داخلية.
ومنع تفاقم مثل هذه النزاعات يتطلب ضرورة بناء علاقة المواطنة بين الجماعات العرقية والدينية والثقافية وتعميق مفاهيمها، لقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة استخدام الفروق العرقية والدينية والثقافية في إشعال أي نزاع داخلي، لا سيما أن مثل هذا النزاع من شأنه أن يفضي إلى انهيار أو تعطل النظام الاجتماعي والسياسي القائم دون أن يصحبه بالضرورة بروز نظام بديل، كما حدث من قبل في الصومال وقبله في لبنان جراء حالات مماثلة لما يجري الآن في النيل الأزرق.
مما سبق تتضح الحاجة الملحة من قبل الدولة السودانية وحكومة النيل الأزرق العمل على وضع سياسات منع نشوء النزاع أو التخفيف منه، على أن تمس المسائل الجوهرية والأصلية في النزاع، وتكون في احتدام الجدل بشأن التنافس على الموارد الطبيعية، والسيطرة على الحكم وتحديد صلاحيات الأقاليم والمناطق والأيديولوجيات الحاكمة،
والأطراف أو مجموعات النزاع سواء أكانت عرقية أم إقليمية أم تيارات سياسية.
وكذلك أنواع القوة المستخدمة وطرق الإكراه مثل أسلحة الدمار الشامل والإرهاب والإبادة الجماعية وانتهاك حقوق الإنسان والتطهير العرقي، والفضاء الجغرافي حيث تتم المجازر وعمليات التخريب في النزاعات والداخلية كما حدث مؤخراً في محلية ود الماحي.
وتختلف مستويات النزاع سلمياً كان أم عنيفاً، في درجات التعاون والعداء، فبعضها ينتهي بسلام ودون أي إكراهات أو عنف، في حين يرتفع بعضها الآخر إلى أعلى درجات الصدام والمواجهة كما حدث في النيل الأزرق، وتشمل الاضطهاد والإيذاء الجسدي.
ونرد استشراء الفتنة والنزاعات القبلية في النيل الأزرق إلى فشل الدولة في التعامل مع التنوع الداخلي على أساس الدين والقبيلة والمنطقة، وبين الجماعات المنضوية تحت مظلة الدولة الأمر الذي جعل من الصعوبة خلق هوية وطنية موحدة قادرة على دمج
الجماعات الإثنية والعرقية في بوتقة واحدة في السودان ككل، والنيل الأزرق على وجه الخصوص، بالشكل الذي يساعد على عملية دمج وطني موحد، وتتمثل أهم مظاهر هذا الفشل في التعامل مع التنوع الداخلي في حرمان مشاركة عادلة وفاعلة في السلطة وتملك الأراضي، مما عرقل عملية إثراء الاندماج الوطني والتي لا تمس السيادة فقط، بل تضفي عليها قدراً كبيراً من الشعور بالانتماء، كما فشلت حكومة جنوب السودان في ترسيخ مسألة التسامح والاستيعاب
للتنوع الموجود ضمن مكوناتها الثقافية، فضلاً عن ذلك لم تعمل حكومة الإقليم على تحقيق تنمية عادلة بكل تنوعاتها، فالتنمية واحدة من ركائز نجاح فكرة الاندماج الوطني، دون إغفال أهمية الانصهار الثقافي إذ يعد مقدمة ضرورية للاندماج في كافة المجالات، وتحقيق
الاندماج الوطني بالشكل الذي لا يؤثر على ما تمتلكه كل جماعة من خصوصية ثقافية، تحافظ عليها وتجعلها تشعر بالأمان والطمأنينة في إطار وحدة الأرض والشعب.
نخلص إلى أن حالة إقليم النيل الأزرق الواقع الآن في أقصى جنوب السودان الجديد، تمثل حالة جد متميزة وفريدة، وذلك بالنظر
للصراعات ولمستويات التعدد العالية في كل أبعاد وعوامل التعددية الإثنية المختلفة، حيث أن الإثنية بالنيل الأزرق تتصف بالتعقيد والتداخل من حيث الأسباب والدوافع من جهة، ومن جهة أخرى فإن حداثة الدولة ومحدودية الحركة الشعبية لتحرير السودان في إدارة الشأن العام، كلها أسباب عملت على تأجيج الصراع، وهو ما أدى إلى تعطيل الجهود الرامية لبناء دولة، والإخفاق في تبني مشروعات وطنية يمكن من خلالها إذابة تلفوارق الطبقية والاختلافات الإثنية والثقافية التي تميز المجتمع، ليس هذا فحسب، بل تبني الحكومة سياسات إقصائية وتمييزية ضد الجماعات الأضعف، حيث حرمتها من نصيب عادل من الثروة والسلطة، وهو ما اضطرها إلى أن تعود إلى الولاءات الضيقة والانتماءات القبلية، كما تساهم مشاكل الهوية التي تعاني منها العديد من قبائل النيل الأزرق، إلى حدٍ كبير في تنمية الدوافع النفسية للنزاعات الاجتماعية، فإذا لم تتم معالجة هذه المشاكل فإن العنف سيترسخ في هوية الفرد والجماعة والمجتمع ككل، لأن الأفراد المنخرطين في النزاع سيبدأون بتعريف أنفسهم من خلال النزاع، فالأحداث التي قد تهدد جماعة أو مجتمعاً ما، ستولد تضامناً غير مسبوق بين الأفراد، وبما أن الحفاظ على هذه الهوية واسترجاعها قد يستغرق وقتاً، فإن العنف المرافق لهاته المرحلة قد
يصبح عاملاً مساعداً على فشل عملية بناء الدولة، ويمكن للعنف أن يأتي في شكل دفاع عن النفس، عن الممتلكات وعن الهوية، وهذا النوع من العنف عادة ما يدوم لمدة أطول، ما قد يؤدي إلى ترسيخه في هوية الأفراد جراء التأثير الاجتماعي، وحتى إذا ما أوشك النزاع على الانتهاء، فإن فئة معينة ستجد نفسها من دون هوية، هوية بنيت على النزاع والعنف، وبالتالي، فإن هذه الفئة ستعمل كل ما بوسعها حتى تضمن استمرار العنف، فأزمة الهوية تعتبر أداة من أدوات الدفاع عن طريق العنف.
وبالتالي فإن حل وإدارة الصراع القبلي في النيل الأزرق في حاجة ماسة إلى وجود استراتجية تشاركية وتفاعلية، يتم من خلالها إشراك جميع أطراف الصراع وأصحاب المصالح والمجتمعات المحلية في إيجاد حلول موضوعية، بالإضافة إلى ضرورة وضع الحلول الملائمة حتى تكون تلك الحلول فعلاً حلول استراتجية تعتمد على العدالة في توزيع العائدات على جميع السكان، حتى لا يتجدد الصراع مرة أخرى في الإقليم، خصوصاً أن ذلك كان واحداً من أبرز أسباب الصراع في النيل الأزرق.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب