مضامين العدالة الانتقالية.. تقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا جراء الحروب والمشاكل السياسية ذات النزوع إلى العنف

 

يحق للضحايا المتأثرين بالأحداث أن يروا معاقبة المرتكبين للجريمة

تقرير: النذير إبراهيم العاقب

انطلقت يوم السبت الماضي ورش العدالة الانتقالية بالعديد من عواصم أقاليم وولايات البلاد المختلفة، وتأتي في إطار ورش استكمال سلام جوبا التي بدأت مطلع فبراير الماضي بغرض عام يهدف إلى إنهاء حالة التكلس السياسي السوداني الراهن، ومن ثم إعلان تشكيل الحكومة المدنية القادمة.

ويأتي الفهم العام لمسألة العدالة الانتقالية على أنها؛ مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتتضمّن هذه التدابير .. الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. وليست العدالة الانتقالية بالضرورة أنها نوع خاص من العدالة، إنّما هي مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من النزاع، أو قمع الدولة، ومن خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا، وتقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا جراء الحروب والمشاكل السياسية ذات النزوع إلى العنف، وتشجّع العدالة الانتقالية كذلك الثقة المدنية، وتعمل على تقوية سيادة القانون والديمقراطية في الدولة المعنية بها.

ومن ثم العمل على معالجة الآثار السالبة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت أثناء الحروب، وهنا يحقّ للضحايا المتأثرين بتلك الأحداث أن يروا معاقبة المرتكبين ومعرفة الحقيقة والحصول على تعويضات.

ولأنّ الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثّر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على المجتمع ككلّ، فمن واجب الدولة أن تضمن، بالإضافة إلى الإيفاء بهذه الوجبات، نصاً صريحاً في قوانينها ينص على عدم تكرار تلك الانتهاكات، ويقضي بإصلاح المؤسّسات التي إما كان لها يد في هذه الانتهاكات أو كانت عاجزة عن تفاديها.

وعلى الأرجح أنّ تاريخاً حافلاً بالانتهاكات الجسيمة التي لم تُعالج سيؤدي إلى انقسامات اجتماعية وسيولّد غياب الثقة بين المجموعات وفي مؤسّسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما، كما أنّه سيطرح تساؤلات بشأن الالتزام بسيادة القانون، وقد يؤول في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف في أشكال شتّى.

وكما يبدو جلياً في السودان بالتحديد، حيث ارتكَبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إبان فترات الحروب التي طالت العديد من الأقاليم السودانية إبان فترة الحكم البائد، فإن مطالب العدالة تأبى أن تتلاشى، بحكم الظلم الجسيم الذي وقع على سكان تلك المناطق التي تأثرت تأثيرات مباشرة بتلك الحروب والنزاعات المسلحة، وخاصة في جنوب كردفان و النيل الأزرق ودارفور.

من ما سبق نخلص إلى أن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية في السودان ككل، وفي المناطق المتأثرة بالحرب تحديداً، لابد أن يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل بالضرورة، وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، والتحقيق في الجرائم الماضية، وتحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم، وأهمية تعويض الضحايا، ومنع وقوع انتهاكات مستقبلية، والحفاظ على السلام الدائم، والترويج للمصالحة الفردية والوطنية.

ولتحقيق تلك الأهداف، لابد للدولة من اتباع العديد من الاستراتيجيات، بعضها ذات صبغة قضائية وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، مثل

الدعاوى الجنائية، والتي تشمل ضرورة إجراء تحقيقات قضائية مع المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، وكثيراً ما يركز المدعون تحقيقاتهم على من يعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية.

وهنا يمكن القول إن أول أعمال لهذه الآلية بدأ بمحاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي قد تتم على المستوى الإقليمي أو الدولي أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة التي جرت من قبل في سيراليون.

وهناك أيضاً لجان الحقيقة، والتي هي في الحقيقة، هيئات غير قضائية، ومهمتها أن تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة، وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم، وتقديم مقترحات لمنع تكرر الانتهاكات مستقبلاً.

أما بخصوص برامج التعويض أو جبر الضرر، وهذه مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي، وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.

وتستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دوراً في هذه الانتهاكات، غالباً القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية وغيرها، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسؤولين غير الأكفاء والفاسدين، وغالباً ما تشمل هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحياناً دستورية.

ويشير الواقع إلى وجود آليات أخرى من قبيل جهود تخليد الذكرى، وتشمل إقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة للضحايا، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي.

ويمكن أن تتم هذه الآليات على المستوى الوطني بشكل كامل، أو على المستوى الدولي أو على نحو مختلط أو هجين مثل الترتيبات الخاصة؛ كالتي حدثت من قبل في سيراليون وتيمور الشرقية وكوسوفا، إذ يعد إنشاء الاستراتيجيات المختلطة أو الهجينة للعدالة الانتقالية استجابة منطقية للمشكلات التي تواجه الاستراتيجيات ذات الطابع الدولي، مثل البعد الجغرافي والانفصال القيمي عن المجتمعات المعنية، ومن ثم فالاستراتيجات الهجينة من المتوقع أن تكون أكثر قدرة على تحقيق المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي، لاسيما في حال اعتمادها على مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية قادرة على استيعاب الاختلافات في روايات الأطراف المختلفة للأعمال العدائية التي تكون هذه المجتمعات قد شهدتها.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب