عبدالحفيظ مريود يكتب: جهاز المخابرات.. أم جهاز الغباء؟

بدون زعل
صديقي الشاعر الفذ محمد مدني، صاحب “يا بحر قم.. حرك تحرك أو..”، التي قدمتها فرقة “عقد الجلاد”، حينما كانت تهز وترز، ساخر سخرية حبيبة.. في التسعينيات، قبل اغترابه إلى السعودية، ثم تركيا، كان يسكن في حي القوز بالخرطوم، وكنا “عزابة” بالحلة الجديدة”.. يعني جيران، وكدا كان “يغشانا”، أحياناً، إذ هو صديق قديم للسر السيد، الذي عرفني به..
ومن حين لآخر، “يغشاني” في “هيئة الأعمال الفكرية”، حيث كنت أعمل محرراً.. مظهره العام – حينها – “مثقف ماركسي”، بامتياز.. جينز، تي شيرت بلا ياقة، أو كنغولي، وحقيبة من القماش ونظارات طبية.. وهو ماركسي، بالطبع.. يصدف أن يكون استقبال الهيئة مكتظاً بـ” كيزان نوعيين”.. ذات مرة وأنا “أقدمه”، خارجاً، علق ساخراً: “أنا ما عارف يا مريود الكيزان ديل دايرين بيك شنو؟ إنت مباري الشيعة، ومصاحب الشيوعيين”..
شايف كيف؟
ثم صرت – لاحقاً – مديراً للإدارة السياسية بتلفزيون السودان.. جهاز الأمن والمخابرات الوطني ينتج برنامجاً سياسياً على الهواء مباشرة.. كنت معداً له قبل أن أصبح مديراً للإدارة في حلقة من الحلقات اختلفت مع مدير الشركة المنتجة، التابعة لإدارة الإعلام بالجهاز، وهو ضابط عقيد، حول عنوانها وضيفها.. كان تقديري أن الموضوع الذي اقترحه عفا عليه الزمن، أكثر من عام والضيف المقترح غير مؤهل للحديث عنه، ولم يحدث تطور مهم في الملف.. أصرّ على رأيه، وأصررت.. “نركب راس زي الراس”..
إزاء إصراري، اتصل علي بعد ساعة، ليبلغني أن مدير إدارة الإعلام يطلبني في مكتبه الثامنة صباحاً.. قلت له ” أنا بصحى الساعة عشرة، ما بقدر أجي تمانية”.. انتهرني “يا زول دا استدعاء.. تمانية تكون في المكتب”.. قلت “طيب”..
أبلغت مديري المباشر، عبد الماجد هارون.. الذي أبلغ المدير العام محمد حاتم سليمان، وكان خارج البلاد، وأجرى اتصالات سياسية عليا.. ذلك أن عبد الماجد هارون متنفذ ولا تنقصه العلاقات..
كان توجيه محمد حاتم، أن يتم إيقاف البرنامج فوراً، ثم بعد داك نشوف.. ومحمد حاتم رجل شجاع، حيوي، وحاسم (سأكتب عنه بشكل منفصل).. مرت ساعتان، عاد إلي الضابط بهاتف: “يا حبيبنا.. ياخ تقوم علينا الدنيا؟!! كنا دايرين نتفاكر معاك وكدا.. صعدت الموضوع قدر كدا ليه؟”.. قلت له “ح أكون الساعة تمانية عندكم”.. رد: ” لا ياخ.. الموضوع ما بستاهل”..
شايف كيف؟
ذهبت إليه، بعد يومين أو ثلاثة، في مكتبه. سألته: “هل تعرف كم مرة تم اعتقالي من قبل جهاز الأمن؟”.. أجابني: “مرات كتيرة.. لكن ما حسبتها”.. سألته: “تقريباً كم مرة؟”.. قال: ” أقل من عشر مرات”.. “لأي سبب تم اعتقالي؟”.. أجابني: “بسبب كتاباتك وآرائك السياسية، طبعاً”.. قلت له: “هل تعرف أنني لم يتم اعتقالي ولا مرة واحدة؟ وهل تعرف لماذا؟”..
كانت الدهشة بادية عليه.. “معقولة؟!”..
“أنا بديت حياتي المهنية في مركز الدراسات الاستراتيجية، فجريدة الإنقاذ الوطني، فالأنباء، فهيئة الأعمال الفكرية، فالصحافي الدولي، فألوان، فرأي الشعب، فالتلفزيون القومي.. إنت عارف كدا؟”.. أجابني: “والله أول مرة أعرف المعلومات دي”.. “طيب.. المرة الجاية لما تجيب استدعاء، أو تكون داير تعتقل، شوف ملف الزول.. دي بديهية ياخ”.
شايف؟
ثم قدمنا – فيما بعد، وقد تركت التلفزيون – طلباً بالإذن لتصوير إفادات لنسريت كرار، المناضلة الإرتيرية في كسلا، وبعض المشاهد التميثلية لأدوار المرأة الإرتيرية في نضال الاستقلال.. انتظرنا أربعة أشهر، والأمن والمخابرات الوطني يماطل.. حملنا كاميرتنا وذهبنا إلى كسلا.. صورنا وعدنا وبثت قناة الجزيرة الفيلم، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني يظن أنه حرمنا – لتقديرات أمنية – من ذلك..
ما علاقة كل ذلك بأي شيء؟
حسناً..
“العقلية الأمنية” هي التي أصابت السودان في مقتل.. لماذا؟
لأنها عقلية تتأسس على “سد الذرائع”.. وهو فقه موتور ممتلئ بالشك والوسوسة، والخوف من الوقوع في الخطأ، الخطيئة، الهلكة، المفسدة.. الخ. لا يغامر لاجتراح أفق، أو افتراع طريق.. يخشى العواقب الوخيمة التي لا يمكن إصلاحها.. وليس ثمة من خطر أشد من الكفر نفسه، وهو مغامرة يمكن للمرء أن يتخلص منها، في أية لحظة.. وهو الأمر الذي جعل الكرة الأرضية عاجة بالديانات والشرك والإلحاد.. وقد كان في الإمكان أن يمحو الله – تعالى – كل من لا يؤمن به، أو كل من ارتكب كبيرة.. لكنه لا يخشى الفوت، تقدست أسماؤه..
فما الذي يجعل جهاز الأمن مهووساً باعتقال أو استدعاء أو إجبار كل من يخالف الإنقاذ على مغادرة السودان؟ لماذا دأب على إغلاق الصحف “المخالفة”، أو شرائها، أو منع الصحفيين والكتاب من الكتابة؟ لماذا دأب على التضييق على الأحزاب، أو بعثرتها؟ هل كان يفكر – بوضوح تام – معتقداً ومتصرفاً على أساس “أبدية الإنقاذ”، و”لا حقوقية” من خالفها؟
شايف كيف؟
في أعقاب استضافة للشاعر المغربي محمد بنيس، قرر جهاز الأمن “إغلاق” اتحاد الكتاب السودانيين، دون أن يخطر وزير الثقافة – حينها – الطيب حسن بدوي. يعلق السر السيد، ساخراً، كعادته، على الحادثة “يكون الرقيب بتاع الجهاز المكلف بالموضوع ما عرف بنيس دا منو.. ولا قصص الحداثة وما بعد الحداثة دي.. رفع تقريراً قال ليهم الاتحاد دا يعتبر مهدد أمني”..
لأن تحديد مفهوم “المهدد الأمني” الذي ساد حقبة الإنقاذ مفهوم فضفاض، طال – في مرحلة ما – حسن الترابي نفسه.. وعند بعضهم – مثل نافع علي نافع – يكون مجرد انتمائك لدارفور، جهة ما، حزب ما، قبيلة ما، منظمة ما، مهدداً أمنياً.. والسياسيون لا يراجعون (المنظومة المفاهيمية المتكاملة) التي يعمل جهاز الأمن وفقاً لها.. واستناداً إلى حسابات دقيقة، كان يمكن أن يظل جنوب السودان جزء من الوطن، أن تظل دافور بمنأى عن الإحن، أن يكون شرق السودان كأنعم ما يكون، جبال النوبة، النيل الأزرق لولا (المعالجات الأمنية)، و(العقلية الأمنية).
شايف كيف؟
لقد واجه برطم، وهو نائب برلماني صلاح قوش، حين اشتدت “المعالجات الأمنية” للمظاهرات والمواكب “هل أنتم جهاز أمن حزبي، أم جهاز أمن وطني؟”..
وهو تلخيص مؤسف، دقيق، محزن لواقع “أقوى جهاز مخابرات في شرق إفريقيا”.. والواقع أن الجهاز تلخيص دقيق لبنية تفكير الإسلاميين: أنت عدو محتمل إلى أن تصير أنا.. فياً للهول!!!
“أنت عدو محتمل، إلى أن تصير مطابقاً لي في كل شيؤ”.. وهو ما سيكون على الإسلاميين العكوف على معالجته في السنين القادمة.. أن يحدثوا تغييرات في بنية التفكير…
الانتقاليون والديمقراطيون عليهم أن يضعوا “إصلاح جهاز الأمن الوطني” أولوية قصوى في مطالب (إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية)، قبل الجيش، الشرطة، والدعم السريع..
ثم بعد داك “نشيف” الباقى.


لمتابعة أخبارنا انضم إلى مجموعتنا في الواتساب
انضم الينا في الواتساب