بقلم صلاح شعيب
لم يتجوهر التعدد السوداني إلا في المشهد الإبداعي بصور معاكسة لرغبة بناة الدولة في غمط ظهوره بسياسة غشيمة قادت لهذا الوضع المجتمعي الماثل بكل زيفه. وبهذه الخلفية في إهدار الموارد الثقافية لا يمكن فهم مشكلة البلاد، وهويتها، سوى من خلال الثيمات الإبداعية القومية التي شكلها مبدعون تقاسموا تلوين خريطة البلاد بأبعادها العرقية، والجهوية، والأيديولوجية، والأقوامية. ولو تأتى الاعتراف السياسي بقيمة التنوع بالصورة التي اشتغل لها المبدعون لاختصرنا الطريق لإنشاء الدولة الوطنية التي تعدل في طرحها الثقافي دون الانحياز لتيار دون آخر.
نبيل غالي جرجس وجه مألوف لهذا التعدد في الحضور الثقافي السوداني الذي يفضح خيبة سياسيينا. ولم يكتف نبيل بتلك المواظبة في تأكيد وجوده كآخر يُعرف بقوميته، أو ديانته، وإنما لمدى خمسين عاما كرس جهده كمبدع سوداني أصيل لدعم التعدد الفني من خلال عمله الثقافي، والصحفي، والنقدي.
تعرفنا على همة نبيل في دعم ثقافة بلاده منذ النصف الأول من الثمانينات برغم ثقل محاولات اختطاف هوية البلاد الثقافية، والدينية. بل تصالح مع قدره الثقافي ليحول طاقته الأدبية، والصحفية إلى بناء قصصي، ونقدي هادئ، وعميق، في ظل هيمنة السياسات الثقافية التي حاولت تنميط العمل داخل المؤسسات الرسمية، وحصره عند رغبة المؤسسين الأوائل من الآباء.
لم يهاجر نبيل الذي توفرت عنده عدة أسباب للعيش في الخارج بكل هناء، ورغد. ولكنه كان أكثرنا ارتباطا بوطنه. فلم يغادره حتى دفع ثمناً باهظاً لمعايشة هذا البؤس الثقافي الذي يقاومه بعزيمة القلم.
مع اسمه المعروف في المشهد الأدبي، والنقدي، والصحفي، لفترة طويلة تجاوزت الخمسين عاماً ما يزال نبيل بعيداً عن التقييم الحقيقي لوظيفته في بناء دولة المواطنة بخلفية عطائه المتواصل في التنوير الأدبي.
لكن نبيلاً الذي لاقيته في زيارتي الأخيرة للبلاد وجدته حزيناً، ومهموماً للغاية، بما آلت إليه أوضاع المؤسسات الثقافية والإعلامية التي عجزت عن استيعابه بقدراته المهولة، وهي لما عجزت عن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعد ثورة ديسمبر التي لا بد أن الوعي الثقافي الذي ساهم فيه نبيل – بجانب زملائه – قد أسهم في تفجرها.
-٢-
بدأ الأستاذ نبيل غالي كتابة القصة منذ ان كان في الثانوية، وأكمل مجموعته القصصية قبل أن يصل سن الخامسة والعشرين. ولاحقاً عمل مراسلاً صحفياً لجريدة الأيام في بداية السبعينات من سنار التي فيها شهدت رغبته لتأكيد جدارته الإبداعية لاحقاً. فقد أسس مع آخرين رابطة سنار الأدبية التي كانت مركزية ثقافية في النيل الأزرق إبان السبعينات. وهكذا فإن مملكة سنار بكل زخمها التاريخي الديني انطبعت في ثقافة نبيل الذي يرى ارتباطه بها عظيماً في شحن ذاكرته الإبداعية، وقد تناول أبعادها الأسطورية في كثير من قصصه.
الرابطة السنارية كانت متعددة في نشاطها الثقافي الذي شمل المسرح، والتمثيل، والترجمة، والغناء، والنقد، والعمل الروائي، والقصصي. وأشرف نبيل بعون أصدقائه من الأدباء على مجلة الزرقاء التي كانت تطبع بالرونيو، وتوزع في مدن الإقليم، وعاصمة البلاد حتى، وترسل لعدد من الادباء في مصر، وبعض البلدان العربية. وعبر كل هذا الجهد كان لنبيل دور في كتابة، وإخراج، مسرحيات عديدة بجانب المساهمة في إصدار كتب ثقافية. وللأسف لم تهتم الدولة بذلك المجهود الأهلي، وتعميمه على مستوى القطر لتشجيع المبدعين، وتنمية تطورهم، وتأهيلهم للانتشار القومي، خصوصاً أن عدداً من أدباء الرابطة صاروا معروفين أمثال الروائي مبارك الصادق، والشاعر محمد محيي الدين، والناقد عبد اللطيف علي الفكي.
تزاملت مع نبيل المولود في عام ١٩٤٩ في التحرير، والكتابة في عدد من الصحف، وعرفت الكثيرة عن سيرته الذاتية المتصلة بالإبداع. فهو قد درس في سنار كل مراحله التعليمية، وكان يحدثنا بأن معلم التربية الإسلامية طرده ذات مرة من المدرسة لكونه مسيحياً. ولكنه غضب فبكى، وراح شاكياً لوالده الذي حضر معه للمدرسة ليطلب ألا يُستثنى ابنه من دراسة الدين الإسلامي بما فيه من حفظ القرآن الكريم، وتلاوة تجود لغته العربية. وقد كان، حيث برز متفوقاً في التربية الإسلامية، وفي امتحان الشهادة السودانية صار من أميز الطلاب الذين نالوا درجات متقدمة في المادة على مستوى المنطقة.
ولعل هذا درس لمن يفقهون في التسامح الديني لأقباطنا المستنيرين، والثقة في المعتقد الأول عند الاختبار بقيم معتقد آخر. فمسيحية والده لم تمنع الابن من النهل من قيم الدين الغالب في البلاد ما دامت الأديان كلها في بيئة التعدد تتجاور لتشكل تماسك لحمة المجتمع الذي مصيره التعايش السلمي. ولا تستغرب أن نبيلاً الذي زاملته كان حفياً بقرائه المسلمين إذ كان يحرر صفحة رمضانية دون أن يذكر فيها اسمه. وقد عملنا سوياً في صحيفة الصباحية حيث كان رئيساً للتحرير، فيما كنت مديراً للتحرير. وقد وقفت على أخلاقه الرفيعة، وحيائه الملحوظ، وعشقه الكبير للمهنة. وتكاد لا تسمع صوته عندما ينكب في العمل الصحفي في الساعات التي يقضيها بالصحيفة. وعندما تراه سائراً في الطريق تحس كأنه يريد الاختفاء منه دون أن يزاحم الناس في طريقهم المعاكس.
-٣-
قبل استقراره بالخرطوم ظل نبيل ناشراً لقصصه في الملفات الثقافية في الصحافة، والأيام، وكاتباً في قضايا متعددة. وتراوح جهده بين العمل الأدبي والصحفي. فحرر، وشغل إدارة صحف كثيرة طوال نصف قرن، فكان يجري الحوارات مع الرموز الثقافية السودانية، ومن خارج البلاد، ويشرف على صفحات ثقافية لصحف سيارة. ويمتد جهده للعمل بالمجلات برفقة الراحل عيسى الحلو، ومجذوب عيدروس، حيث كانوا يشكلون ثلاثية ماجدة للعمل الثقافي بعد هجرة كثير من المبدعين. وقد كان ارتباط هذا الثلاثي الناقد بالبلاد رفضاً للهجرة قد ساهم في رعاية عدد من المبدعين الشباب، والحفاظ على تقاليد التحرير الصحفي الأدبي عبر الملاحق، والمجلات. بالإضافة لمساهماتهم في العمل الإذاعي، والتلفزيوني، والمهرجانات التي ترعاها الدولة، والقطاع الخاص، والتعريف بالثقافة السودانية عموماً، في ندواتهم بالداخل، والخارج. ويختلف نبيل عن رفيقيه الحلو، والمجذوب، في أنه لم يكتف بالعمل الثقافي فحسب حيث انشغل أيضاً بالتحرير الصحفي في كل المجالات من خلال ارتباطه بالصحف السياسية، والاجتماعية.
نبيل التحق أيضاً بالإذاعة السودانية متعاوناً حيث أدار القسم الثقافي بها لفترة من الزمن، فضلاً عن ذلك اهتم ببليوغرافيا الرواية السودانية التي رصدها بين عامي ٤٨٩١ و ٥١٠٢، وكذلك له إصدارة عن المشروع الروائي للراحل إبراهيم إسحق، بخلاف مجموعته القصصية “اتكاءة تحت عيوني حبيبتي” وهناك أعمال ينكب عليها الآن في هذا الصدد تخص الشاعر، والناقد، محمود محمد مدني، والقاص عثمان الحوري.
عمق الرواية عن نبيل غالي جرجس لا مناص يتصل بحقيقة هذا التعدد في مساهماته القيمة التي قدمها لوطنه الذي أحبه، ولولا هذا الحب الذي نستشفه في هذا العطاء الخصب لما تعرفنا على سيرته المشرفة. ولعلي في لقائي به كصديق دمعت عينانا، وهو يتحدث متأثراً عن غياب رموز ثقافية رائدة كثيرة في الآونة الأخيرة. كانت علاقتهم بنبيل تقوم على الكفاح الصعب لجعل العمل الثقافي موجهاً، ومرشداً، لنخبنا المسوؤلين عن تنمية الدولة فيما يجهلون حقيقة تنوع بلادهم، ويتنقلون خفافاً، وثقالاً، بين كل وضع وآخر بلا هدى، أو رشاد، أو خجل. ولتخفيف أسفه لهذا التراجع السريع في تماسك المجتمع، والدولة، ربت على كتفه، وقلت له إننا لم ننزل بعد على حياتنا الهتاف الملائكي: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة”. فرد بخلفيته السنارية مستعيراً حكمة الشيخ فرح ود تكتوك:
يا واقفاً عند أبواب السلاطين
أرفق بنفسك من ذل وتهوين