استراتيجية حلة الملاح: تأملات في توازن الدعوة والدعاء
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
حلة التقلّية ليست مجرد طبخة عابرة، بل هي مرآة لفلسفة الحياة ذاتها، تحتاج إلى طباخة ماهرة نشأت في بيت كبير يفيض بالخبرة، تتقن فنون التقدير وحساب كل عنصر بدقة متناهية. إنها رمز للتخطيط المتأنّي، والتكامل بين الموارد، والجهود المضنية لتحقيق الغاية. وكما في الحياة، لا يكفي مجرد الدعاء لبلوغ الأهداف، بل لابد من العمل والسعي وفق سنن الكون وقوانينه. كما يقول الله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ). فالعمل هو الذي يُحوِّل الدعاء إلى استجابة، وفقاً لقوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ويمنح الهدف جوهره ومعناه. كما يحتاج شرب الماء إلى أدوات تُعين على حمله ورفعه، تحتاج الطبخة المسبكة إلى نار هادئة ليكتمل طهيها. وهكذا الدعاء، لا يكون له أثر إن لم يقترن بمزيج من الجهد والصبر والإيمان. الدعاء رغم عمقه الروحي وأهميته في طلب البركة والتوفيق، مهما بلغ صدقه، لا يكفي إن لم يعضده العمل والاجتهاد، لأن الاستجابة تأتي من انسجام الدعاء مع الدعوة (قوانين الكون وسنن الخالق).
الطبخة المسبكة، ككل تفاصيل الحياة الدقيقة، لا يمكن أن تُترك لعشوائية المصادفة أو عبث التقدير فزيادة أي عنصر تُفسد التوازن، ونقصانه يترك فراغاً يشوه المذاق. هكذا هي معادلات الحياة: كل تفصيل، مهما بدا ضئيلاً، يحمل وزنه الخاص في تحقيق الكمال والتناغم. فالنار الهادئة التي تطهو التقلّية تمنحها وقتاً كافياً لتتسبك، مثلما يمنح الصبر المشاريع الكبرى والدعوات الوقت لتكتمل وتنضج. الثورة، كطبخ التقلّية، ليست استنساخاً رتيباً لوصفات الماضي، ولا محاكاةً عمياء لمسارات سبق ارتيادها، بل هي عملية خلاقة وحكمة تُبدع التوازن بين صخب الطموح وهدوء التخطيط، ورؤية نافذة، وحكمة تتقن فن الموازنة بين الإرث والتجديد. إنها أشبه بلوحة فنية تُرسم بأنامل صبورة، حيث يمتزج الأمل بالعمل، والإصرار بالابتكار، لتضيء الطريق أمام العابرين، وتُشيّد جسراً يعبر بنا نحو مستقبل يليق بأحلامنا، ويرتقي إلى مستوى تطلعاتنا.
كسودانيين، رغم تباين مدننا وتعدد أعراقنا واختلاف تقاليدنا وسحناتنا وشرائعنا، يبقى السؤال الذي يطرق أبواب الضمائر، هل نمتلك القدرة على الارتقاء فوق خلافاتنا، وعلى تجاوز أعباء الماضي بجراحه وآثاره؟ هل نستطيع أن نقبل الآخر كما هو، بعلّاته ونواقصه، لنضع أيدينا معاً ونبني وطناً يسع الجميع دون تمييز، وطناً يصير رمزاً للوحدة في التنوع، وحاضنةً لطموحات كل فرد فيه؟ الإجابة ليست في الكلمات، بل في الإرادة التي نحملها، وفي قدرتنا على تحويل التحديات إلى جسور نحو مستقبل يسوده العدل والكرامة والانتماء المشترك. وهل نمتلك الجرأة لنكون جزءاً فاعلاً من الحضارة، ونترك بصمة مضيئة في مسيرة التقدم والازدهار؟ للأسف، تبدو الإجابة بعيدة المنال إذا ظللنا نغرق في مستنقعات العنصرية والجهوية والتنمر، مأسورين بعجزنا عن تقبّل الآخر ورضوخنا للأطماع الضيقة التي أشعلت نيران الاقتتال منذ خروج المستعمر. إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة عميقة لأنفسنا، نعيد من خلالها صياغة علاقتنا ببعضنا البعض على أساس التسامح والاحترام المتبادل، وتوحيد طاقاتنا نحو هدف أسمى، لبناء وطن لا تفرق فيه الأعراق ولا تغلب فيه المصالح الضيقة على قيم العدالة. إن التحدي الأكبر يكمن في قدرتنا على تجاوز إرث الانقسام، واستبدال السلبية بروح المبادرة، والأنانية بالإيثار، لنصنع مستقبلاً يستحقه هذا الوطن الغني بتنوعه وثرائه.
إن افتقارنا إلى القدرة على تسبيك العمل السياسي ونقد الواقع بموضوعية هو ما قادنا إلى هذا التخبط الذي نعانيه. وعجزنا عن تقديم البدائل البناءة، يثبت أن الحلول المجردة التي تبقى حبيسة الورق ليست كافية لتغيير الواقع. يجب أن ندرك أن الاختلاف بيننا ليس عائقاً، بل هو سنة كونية تكمن فيها فرص النضج والتطور، وأن النقد الحقيقي لا يُستخدم كمعول هدم، بل كأداة لإعادة البناء ورسم مسارات جديدة نحو التقدم. إن المسؤولية تقتضي أن نفسح المجال أمام العقول النيرة وأصحاب المعرفة والخبرة ليقودوا المسيرة. لكن هذا لن يتحقق إلا إذا تحررنا من قيود المصالح الضيقة والأهواء الشخصية، وفتحنا أبواب الحوار والتعاون على مصراعيها، واضعين المصلحة العامة فوق كل اعتبار. بهذه الروح وحدها يمكننا أن نضع أسساً صلبة لتغيير حقيقي يلامس جوهر معاناتنا ويصنع وطناً يسع الجميع.
فلنتأمل في تجارب الشعوب الأخرى، حيث تسطع اليابان كنموذج ملهم. تلك الأمة التي نهضت من تحت ركام حرب مدمرة، بعد أن أحرقتها القنبلة الذرية، لم يكن نهوضها نتيجة دعاء عابر أو اعتماد أعمى على نصوص مقدسة، بل كان ثمرة إدراك عميق لقوانين الكون وسنن الحياة، وتسخيرها بذكاء لصالحها. لقد فهم اليابانيون أن التقدم لا يتحقق بالشعارات أو التمني، بل بالسعي والعمل المتناغم مع النظام الذي أرساه الخالق في هذا الكون. أدركوا أن البناء الحضاري لا يقتصر على الإيمان فقط، بل يتطلب علماً ومعرفةً وعملاً دؤوباً يستجيب لتلك القوانين الكونية الثابتة. وهكذا، باتت اليابان شاهداً حياً على أن الأمم التي تقرأ سنن الكون وتسير وفقها، تخلق لنفسها مسارات للنهوض مهما كانت الظروف.
الدعاء يظل بحاجة إلى العمل الجاد وفق سنن الكون وقوانينه ليس مجرد أيد ترفع إلى السماء أو كلمات تنطقها الشفاه، بل هو طاقة عميقة تتناغم مع قوانين الكون، تفتح أبواب الاستجابة حين يُقرَن بالسعي والاجتهاد. إنه نداء الروح الذي يلتقي بإرادة العمل، ليشكل معاً قوة خلاقة تغيّر الواقع وتُمهّد الطريق لتحقيق الأهداف. فالاستجابة نتيجة تفاعلية بين صوت الدعاء وسنن الكون ونواميسه. السياسة مثل الطبخة أشبه بلوحة فنية معقدة، تُرسم بدقة وتناسق، أو سيمفونية كونية حيث لكل نغمة دورها المحوري في تحقيق الانسجام. الكون لا يستجيب للأمنيات الفارغة، بل للعمل الجاد الذي ينسجم مع سننه. إذا أردنا حقاً بناء دولة تسع الجميع، فعلينا أن نضع اختلافاتنا جانباً، ونعمل وفق رؤية مشتركة تستند إلى العلم، وقيم العدالة، والتسامح. فحين نعمل وفق مراد الله الحقيقي، الذي يتجسد في قوانين الكون، سنجد أن التغيير ممكن، وأن النهضة ليست حلماً بعيد المنال.
abudafair@hotmail,com